الكتاب المقدس

  هل يمكننا الاعتماد على الكتاب المقدس تاريخيًا 

 تيموثي كلر

  إن الإيمان المسيحي يقتضي إيمانًا بالكتاب المقدس. وهذا حجر عثرة كبير عند كثيرين. فأنا أقابل نیویوركيين كثيرين بعد أن يكونوا قد دعوا إلى إحدى خدمات كنيسة الفادي، حيث يكون الجزء المركزي في كل عظة مؤسسًا على نص من الكتاب المقدس. ويفاجأ الزائر العادي، بل أيضًا يصدم، إذ يجدنا صاغين إلى الكتاب المقدس بصورة غاية في الانتباه.

  ومن شأن كثيرين أن يقولوا إنهم يعرفون أن في الكتاب المقدس قصصًا وأقوالاً عظيمة، لكن لا يسع المرء أن يأخذها بحرفيتها اليوم، قاصدين أن الكتاب المقدس لا يركن إليه بكامله، لأن بعض أجزائه – أو ربما الكثير منها أو معظمها – غير معقولة علميًا، وغير جديرة بالاعتماد تاريخيًا، ورجعية ثقافيًا.

  سنتتناول في هذا المقال القول: لا يمكننا الاعتماد على الكتاب المقدس تاريخيًا

  يسود على نطاق واسع اعتقاد يقول إن الكتاب المقدس هو مجموعة من الأساطير لا يركن إليها تاريخيًا. وثمة منتدى علماء يحظى بدعاية قوية، يدعى سمینار يسوع” (The Jesus Seminar)، أفاد أن نسبة لا تتعدی 20% من أقوال يسوع وأعماله المدونة في الكتاب المقدس يمكن إثباتها تاريخيًا. فما ردنا على ذلك؟ إن النظر في العلاقة التاريخية المتعلقة بكل جزء من الكتاب المقدس أمر أوسع من نطاق هذا المقال. فسنطرح بالأحرى سؤالاً عن مدى إمكانية وثوقنا بالأناجيل – أي سيرة حياة السيد المسيح المدونة من أربعة بشيرين والتي يتضمنها العهد الجديد – من الناحية التاريخية. والمقصود طبعًا هو الأناجيل القانونية (متی و مرقس ولوقا ويوحنا) التي قبلتها الكنيسة في زمن باكر جدًا باعتبارها أصيلة وذات سلطان.

  غالبًا ما يؤكد أن أناجيل العهد الجديد كتبت بعد حصول الأحداث بسنين كثيرة جدًا، بحيث إن إخبارها عن حياة يسوع لا يمكن الركون إليها لكونها مزخرفة كثيرًا، إن لم تكن كلها من نسج الخيال. ويعتقد كثيرون أن الأناجيل القانونية كانت فقط أربعة من عشرات النصوص المتوافرة، وأنها كتبت کي تدعم سلطة الكنيسة الهرمية، في حين أن الباقي (ومن جملته ما يسمى الأناجيل الغنوصية) قد قمعت. وقد أضفت على هذا الاعتقاد مقبولية ظاهرية جديدة لدى الخيال الشعبي بفضل ذلك الكتاب الذي لقي رواجًا كبيرًا، أعني به “شفرة دافنشي”. ففي هذه الرواية يصور يسوع الأصلى معلمًا عظيمًا، لكن بشريًا على نحو جلي، جعل بعد سنين كثيرة من موته إلهًا مقامًا من بين الأموات، بمسعی من قادة الكنيسة الذين فعلوا ذلك لكي يكسبوا منزلة رفيعة في الإمبراطورية الرومانية. ولكن تتوافر بضعة أسباب وجيهة من أجلها ينبغي اعتبار الأناجيل جديرة بالثقة تاريخيًا، لا أساطير.

  1- توقيت الأناجيل أبكر من أن يتيح لها أن تكون أساطير.

  كتبت الأناجيل القانونية على الأكثر بعد موت السيد المسيح بأربعين إلى ستين سنة. ثم إن رسائل بولس، وقد كتبت بعد موت يسوع بخمس عشرة إلى خمس وعشرين سنة فقط، تزودنا بتصميم لجميع الأحداث المذكورة في الأناجيل بشأن حياة يسوع: معجزاته وأقواله وصلبه وقيامته. وهذا يعني أن أخبار الكتاب المقدس عن حياة يسوع كانت متداولة في أثناء حياة المئات ممن كانوا حاضرين عند قيام يسوع بأحداث خدمته. والبشير لوقا يذكر في إنجيله أنه تلقى أخبار حياة السيد المسيح من شهود عيان كانوا ما يزالون أحياء (لوقا 1: 1-4).

  في كتاب بارز عنوانه “يسوع وشهود العيان (Jesus and the Eyewitnesses)، يحشد الكاتب ريتشارد بوکهام (Richard Bauckham) كثيرًا من الأدلة التاريخية ليبين أنه في زمن كتابة الأناجيل كان شهود عيان مشهورين كثيرين شهدوا تعاليم يسوع وأحداث حياته ما يزالون على قيد الحياة. وكان هؤلاء قد حفظوا ذلك كله وظلوا يمارسون نشاطهم في حياة الكنائس العلنية طوال أعمارهم، مؤدين دور مصادر تلك الأخبار وضامنين لصدقها. كذلك يورد بوكهام أدلة من داخل الأناجيل ذاتها ليبين أن كتاب الأناجيل ومصادرهم من شهود العيان في متن النص لطمأنة القارئ إلى صدقية أخبارهم.

  إن الأناجيل القانونية الأربعة كتبت قبل زمن طويل من كتابة تلك المسماه “الأناجيل الغنوصية” فإنجيل توما الأشهر بين الوثائق الغنوصية، مترجم عن السريانية، وقد بين العلماء أن التقاليد السريانية فيه يمكن أن ترد إلى تاريخ يناهز السنة 175 ميلادية على الأبكر، أي بعد أكثر من مئة سنة من وضع الأناجيل القانونية قيد الاستعمال الواسع النطاق.

  2- محتوى الأناجيل معيق جدًا للإنتاج حتى تعد أساطير.

  إن النظرية الدارجة لدى كثيرين اليوم هي أن الأناجيل كتبها قادة الكنيسة أول عهدها كي يروجوا سياساتهم ويعززوا سلطتهم ويبثوا حركتهم.

  لوصحت هذه النظرة الشائعة، لتوقعنا أن نرى في الأناجيل مواضع كثيرة فيها يؤيد السيد المسيح بعض الآراء في النقاشات التي كانت جارية في الكنيسة أول عهدها. فتلك هي الطريقة التي يزعم الزاعمون أنه بها صاغ القادة المسيحيون الأناجيل بحيث تسائد فرقهم. غير أننا لا نجد ذلك. فنحن نعرف مثلاً أن واحدًا من المجالات الكبيرة التي دارت داخل الكنيسة في أبكر عهودها كانت أن قومًا اعتقدوا أن على المسيحيين الأمميي الأصل أن يختتنوا. وفي ضوء ذلك النزاع الشديد، فإن ما يلفت النظر هنا هو أن السيد المسيح لا يقول أي شيء عن الختان في نصوص الأناجيل. فالسبب الأرجح لشکوته في موضوع الختان هو أن الكنيسة الباكرة لم تشعر بأنها حرة في أن تنسج الأمور وتضع في فم السيد المسيح كلاما لم يقله.

  ولماذا كان من شأن القادة في الحركة المسيحية الباكرة أن يلفقوا قصة الصلب لو لم تحدث فعلاً؟ إن أي مستمع للإنجيل في الحضارة اليونانية أو اليهودية كان من شأنه أن يشتبه في الحال بأن أي شخص يصلب هو مجرم، مهما قال المتكلم خلاف ذلك. ولماذا يعمد أي مسيحي إلى اختلاق خبر طلب السيد المسيح من الله في بستان جثسيماني أن يعفی من مهمته إن أمكن؟ أو لماذا يلقي أصلاً ذلك الجزء الذي فيه يصرخ يسوع من على الصليب معبرًا عن ترك الله له؟ إن هذه الأمور ما كانت إلا لتثير الاستياء أو الارتباك الشديد لدى الذين كان يرجی اهتداؤهم إلى الإيمان المسيحي في شأن أولئك أن يستنتجوا أن يسوع كان ضعيفًا وخاذلاً لإلهه.

  ولماذا تُخترع نساء ليكن أول شهود للقيامة في مجتمع أحلت النساء فيه في مرتبة وضيعة بحيث لم تكن شهادتهم تعد مقبولة في المحكمة؟ كان أكثر معنى وشأنًا بكثير (لو كانت القصة ملفقة تلفيقًا) أن يُجعل ذكور من أعمدة المجتمع حاضرين بصفة شهود عند خروج السيد المسيح حيًا من القبر. فالسبب الوحيد المقبول منطقيًا لتضمين هذه الأحداث كلها في هذه الوثائق هو أنها حصلت فعلاً.

  ثم لماذا أيضًا صور الرسل- وهم قادة الكنيسة الباكرة في نهاية المطاف أخشاء أغلب الأحيان، ومتبلدي الأمن على نحو غیر معقول تقريبًا، وفي الأخير جبناء خذلوا علمهم إما فعلاً وإما إهمالاً؟

  إن ريتشارد بوكهام يورد حججًا مماثلة بشأن تصوير إنكار بطرس ليسوع، حتى إلى حد استنزاله لعنة على معلمه (مرقس 14: ۷۱). فلماذا يلجأ أي شخص في الكنيسة أول عهدها إلى إبراز سقطات قادتها المتقدمين؟ ما كان أحد يختلق قصة كهذه. وحتی رغم كونها صحيحة- حسبما يعلل بوکهام – ما كان أحد سوى بطرس نفسه ليجرؤ على الإخبار بها إلا إذا كان بطرس هو مصدرها وقد سمح بحفظها ونشرها.

  3- شكل الأناجيل الأدبي أكثر تفصيلاً من أن تكون أساطير.

  إن نصوص الأناجيل ليست قصصًا من نسج الخيال. ففى الأصحاح الرابع من إنجيل مرقس نُفاد أن يسوع كان نائمًا على وسادة في مؤخرة سفينة. وفي الأصحاح الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا نقرأ أن بطرس كان على بُعد نحو مئتي ذراع في مياه البحيرة لما رأى يسوع على الشاطئ، ثم ألقى نفسه في الماء، وجذب مع رفقائه شبكة فيها 153 سمكة كبيرة. وفي الفصل الثامن من إنجيل يوجنا، فيما كان السيد المسيح يستمع إلى الرجال الذين جاءوا إليه بامرأة أمسكت وهي تزني، يقال لنا إنه انحنى وأخذ يكتب بإصبعه على الأرض. لا نُفاد ماذا كتب ولماذا فعل ذلك. وليس لشيء من هذه التفاصيل كلها أية صلة بالحبكة أو تظهير الشخصيات. فلو كنا، أنا وأنت نؤلف قصة مؤثرة عن يسوع، لضمناها ملاحظات من هذا النوع ققط لكي نُضفي عليها مسحة من الواقعية. غير أن نوعًا كهذا من الكاتبة القصصية لم يكن معروفًا في القرن الأول. فالتعليل الوحيد لذكر كاتب قديم الوسادة، والـ 153 سمكة، والكتابة بالإصبع على الأرض، هو لأن التفاصيل كانت راسخة في ذاكرة كل شاهد من شهود العيان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى