الراحل الدكتور القس إبراهيم سعيد
“يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابنًا” (إشعياء7: 15).
“الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس وتدعو اسمه يسوع” (متى1: 2).
هذا هو المحك الرئيسي الذي يُعرف به إيمان المحافظين من اعتقاد العصريين. بل هذا هو الضوء الذي به يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وها أنا مورد بعض الأسباب التي تحلمني على الإيمان بميلاد المسيح من عذراء.
1- أنا أؤمن بميلاد المسيح من عذراء لأني أؤمن بالإنجيل كما هو. ليس من شك في أن الإنجيل يقرر بطريقة يقينية قاطعة أن المسيح وُلد من عذراء. فكل من يحاول أن ينكر ولادة المسيح من عذراء أو أن يشك في حقيقتها ما عليه إلا أن يتعرف من غير موارية أنه ينكر الإنجيل. أو أنه يشك في صدق روايته.
مرارًا نسمع الكثيرين يهمسون في آذاننا بهذه الكلمات “وما قولكم في أن ولادة المسيح عذراء لم يسجلها سوى متى ولوقا؟” وجوابًا على هذا الهمس نقول بملء الفم: “وهذا أمر طبيعي، لأن متى ولوقا هما البشيران اللذان اختصا بالتحدث إلينا عن المسيح منذ نشأته الجسدية على الأرض. وهذا يكفى لأن كل حجة تقوم على فم شاهدين، فكم بالأولى إذا كان أحد هذين الشاهدين لوقا الطبيب العلمي؟” فضلًا عن ذلك فإن الحجة المستمدة من الصمت، حجة عاطلة لأننا إذا سلمنا بها اضطررنا إلى أن ننكر الموعظة على الجبل “لأنها مسجلة في بشارة متى وحدها، وأن نلغى مثل الابن الضال” ومثل “السامري الصالح”. لأنهما موجودان في لوقا وحده. على أننا من الجانب الآخر لا نريد أن نسلم بأن مرقس لم يذكر شيئًا عن ميلاد المسيح من عذراء. لأن مرقس قرر هذه الحقيقة ضمنًا ولو أنه لم يسجلها لفظًا، استهل بشارته بالقول: “إنجيل يسوع المسيح ابن الله”. وفي الوقت نفسه هو البشير الوحيد الذي لم يذكر في بشارته شيئًا عن يوسف وهو يزيد عن متى ولوقا، في أنه تغاضى عن ذكر شيء عن اعتقاد الرأي العام وقتئذٍ بأن المسيح ابن يوسف: واكتفى بأن سجل للمعارضين قولهم “أليس هذا هو النجار ابن مريم. وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟” (مر6: 3). (قابل هذا بما جاء في متى13: 55؛ لوقا4: 21). ألسنا نرى في هذا اعترافًا صحيحًا وصريحًا من جانب مرقس بأن المسيح هو ابن الله رأسًا وأنه لم يولد من رجل؟
أما من جهة البشير الرابع – يوحنا- فقد اختص بذكر أزلية المسيح “كلمة الله” “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”. فلا عجب إذا لم يذكر لنا شيئًا عن ميلاد المسيح، لأن إنجيله هو إنجيل رسالة المسيح ولاهوته لا إنجيل طفولته. على أنه وإن لم يذكر شيئًا عن كيفية ولادة المسيح، لكنه ذكر لنا من هو أبوه، إذا عرفنا أن اليهود سألوا المسيح قائلين: “أين هو أبوك؟” فأجابهم المسيح: “لستم تعرفونني أنا ولا أبي” وأن اليهود فهموا مراده من قوله هذا “فكانوا يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه قال إن الله أبوه” (يو8: 19؛ 5: 18).
لكنّ العصريين- والأصح المتعاصرين- يقولون: “ولكن بولس لم يذكر شيئًا عن ميلاده من عذراء”. وجوابًا على هذا نقول: “إن بولس لم يكن مؤرخًا بل كان لاهوتيًا. لذلك قد قرر هذا السر العجيب كحقيقةٍ لاهوتيةٍ ولو أنه لم يذكره كحقيقةٍ تاريخيةٍ. أليس هو القائل في مستهل رسالته إلى أهل كولوسي: “نشكر الله وأبا ربنا يسوع المسيح”؟ أليس هو المتفق مع يوحنا الرسول في المناداة بأزلية المسيح “الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل” (كو1: 17). أليس هو المنادي بأن المسيح هو آدم الأخير الذي جاء أرضنا على رتبه أعلى بما لا يُقاس من رتبة آدم الأول. إذ قال: “الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني (المسيح) الرب من السماء” (1كو15: 47). فإذا كان المسيح متناسلًا من آدم تناسلًا طبيعيًا – أي مولودًا من رجل وامرأة- أفما كان يضعه بولس في صف آدم الأول الترابي الأرضي؟ فعلام إذًا هذا التفضيل في قوله: “صار آدم الأول نفسًا حية وآدم الأخير روحًا محييًا”؟ أليس لأن بولس كان يعلم ويريد غيره يعلم أن المسيح لم يتناسل من آدم تناسلًا طبيعيًا؟ ألم يجعل بولس محور رسائله مرتكزًا على هذه الحقيقة أن المسيح وإن يكن من البشر، لكنه لم يشاركهم في جسد الخطية الذي ورثوه عن أبيهم آدم لأن الله هيأ له جسدًا خاصًا ممتازًا يسمو على الأجساد البشرية على قدر سمو النور على التراب (رو5: 12؛ 8: 1- 4؛ 2تي1: 10)؟ ألا يعترف بولس صراحة بعذراوية ولادة المسيح إذ يقول: “الله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية” (رو8: 3).
2- أنا أؤمن بميلاد المسيح من عذراء، لأن الاعتقاد بهذا الميلاد المعجزي شرط لازم للاعتقاد بلاهوت المسيح، يقول الأستاذ تشارلس برجز (Charles Briggs) وهو في طليعة علماء هذا العصر واشترك مع اثنين آخرين في وضع أوفي تفسير عصري، نقدي، علمي، لغوي للكتاب المقدس: “إذا أنكرنا الاعتقاد بميلاد يسوع من عذراء اضطررنا إلى أن نعتقد أن ابن الله شخص وأن يسوع المسيح شخص آخر، قد اتصل به ابن الله، لكن الكتاب يعلمنا صراحة أن ابن الله لم يلابس شخصًا آخر اسمه يسوع المسيح، بل إن ابن الله هو المسيح وأن المسيح هو الله بالذات – هذه حقيقة ينادي يوحنا ويقررها بولس”.
إذا جاز لنا أن نسمع همس المتعاصرين، أفلا يجوز لنا أن نسمِعهم من جانبنا نحن أيضًا همسًا وهو “إن إنكاركم عقيدة ميلاد المسيح من عذراء، ما هو إلا مظهر من مظاهر إنكاركم كل معجزة أليست قيامة المسيح معجزة؟ أليست قيامة الأموات يوم الدين معجزة؟ أليست الولادة الجديدة معجزة؟ أليس صبر الله علينا وعليكم معجزة؟
إذًا على هذا الأساس يقوم إيماننا بجملته أو يسقط.
3- أنا أؤمن بميلاد المسيح من عذراء لأنه من الطبيعي أن الشخص الذي كان عجيبًا في حياته يكون أيضًا عجيبًا في ميلاده. يقول دكتور بوشنل Hrace Bushuel: “إن سمو صفاته يحرم علينا أن نضعه في مصاف البشر”.
من الطبيعي أن المسيح الذي كان في حياته فوق الطبيعة. أن يولد بطريقة خارقة للطبيعة لأن الذي كان معجزة في حياته وفي مماته، ينبغي أن يكون أيضًا معجزة في ولادته؛ فهو لغز الأجيال فلا غرابة إذا كان ميلاده لغزًا، وهو معجزة الدهور، فلا عجب أن يولد بمعجزة. وإذا اعترض أحد بالقول: “إنه لم يولد شخص لا قبله ولا بعده بمعجزة”. قلنا: “فليكن لأنه لم يقم في كل التاريخ سوى مسيح واحد، فريد، ممتاز إن عذراوية حياته هي حجة عذراوية ميلاده”.
4- أنا أؤمن بميلاد المسيح من عذراء، لأن تاريخ الكنيسة الأولى مفعم بشهادات متواترة مُثبته صدق هذه العقيدة فمن أغناطيوس أسقف أنطاكية (117- 125م)، إلى أرستيديس الأثينوي (130م)، إلى يوستنيان (140- 150م)، إلى إيريناوس (190م)، إلى ترتلياوس (200م)، إلى أوريجانوس (220م)، كلهم يشهدون بفم واحد، أن يسوع المسيح وُلد من عذراء.
أنا أؤمن بميلاد المسيح من عذراء لأنني لا أستطيع أن أقبل النتائج الوخيمة التي تترتب على إنكار هذا الاعتقاد المقدس، فإذا لم يكن المسيح قد وُلد من عذراء، فهو ليس بمسيح وإنجيله ليس بالإنجيل، إذ يصبح إنجيلًا بلا قوة – كشمشون بعد زوال قوته عنه.