جريدة الطريق
إسرائيل وغزة والمسجد الأقصى
د. ناجي يوسف
مرة أخرى تعاود الأحداث البغيضة والأليمة، غير المُرحب بها فرض نفسها علينا، فكما هو الحال في كل مرة تبدأ فيها مواجهات دامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي تزداد ضراوتها وخساراتها في الأرواح والمنشآت والبنية التحتية الفلسطينية وقتل عشرات القادة الشعبيين والسياسيين والعسكريين، في كل مرة تبدأ الأحداث من الفلسطينيين، وخاصة من المسجد الأقصى، تبدأ بتحرشات أمنية بين الفلسطينيين والجنود المكلفين بحراسة ومراقبة ما يحدث داخل المسجد بواسطة الشباب الفلسطيني المُسَيْطَر على عقله وقلبه من خلال روح القتل والضلال ومن قادة يبدو أنهم لا يهمهم في كثير أو قليل حال المواطن الفلسطيني العادي، أولئك الجنود الذين يراقبون ما يحدث بالمسجد من تجمعات ومحاضرات وطرطشة الضغينة والكراهية المتبادلة بين الطرفين، تقوم على أثرها تجمعات الشباب والرجال والفتيات والنساء وحتى الأطفال باحتجاجات ومظاهرات واعتصامات داخل المسجد، مما يؤدي إلى دخول القوات الأمنية الإسرائيلية داخل الساحة الخارجية للمسجد، ثم يبدأ التراشق بالحجارة والاشتباك بالأيدي، وبعدها يتم القبض على المشاغبين من الفلسطينيين، الأمر الذي يؤجج ويضرم نار العداوة بين الطرفين أكثر وأكثر، وبعدها يخرج التوتر والعراك من المسجد الأقصى بسرعة البرق ليصل إلى غزة، حيث تجمعات القيادات للحركات الجهادية الفلسطينية، فيبدأ شباب غزة بسماح من قياداتها، وبتدعيم من حزب الله وإيران وحماس وبعض الدول العربية الأخرى التي يهمها لعب الدور الأكبر في زعزعة سلام الشرق الأوسط كله، يبدأ هؤلاء الشباب بالتجمعات والاعتداء على الجنود الإسرائيليين بالنبلة والمقلاع وحرق إطارات عجل السيارات، وفي هذه المرة الأخيرة من الأحداث، قامت غزة بإطلاق سيل من الصواريخ التي فجرتها إسرائيل في الجو وقبل وصولها إلى الأرض والتي نزل ٩٠٪ منها في الأراضي الفلسطينية، بعيدًا عن الأهداف التي كان يحلم الفلسطينيون بضربها داخل الأحياء السكنية الإسرائيلية، وهذا سيناريو متكرر حدث كثيرًا وسيحدث في المستقبل القريب والبعيد، وعلى الجانب الآخر، يرى الجنود الإسرائيليون أنه مهما كانت أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، ومهما كان تاريخه القريب والبعيد وارتباطه بالعالم الإسلامي وبأعصابه المتوترة على طول الخط من إسرائيل وجنودها، إلا أنه بالنسبة للجنود الإسرائيليين وقادتهم العسكريين، فهم يعتبرون أن المسجد الأقصى بكل مكوناته ما هو إلا مجرد مسجد داخل أورشليم القدس عاصمة إسرائيل، وأن أمنه وكل ما يحدث بداخله هو خاضع للإشراف الأمني والجيش والبوليسي لإسرائيل، أما المسلمون وخاصة المصلين في المسجد الأقصى وبالذات في رمضان فيرون أن المسجد الأقصى ملكهم، ومن حقهم أن يمنعوا البوليس الإسرائيلي من دخوله، وأن لهم كفلسطينيين حق التجمع به وحتى التظاهر والاعتصام داخله لأي سبب من الأسباب، دون رقابة أو إشراف أو تدخل عساكر الأمن الإسرائيلي بما يحدث فيه بأي شكل من الأشكال وبالتالي تثير رؤية الجنود الإسرائيليين المحيطين بأبواب المسجد، تثير الشعب الفلسطيني في دخولهم وخروجهم للمسجد، ويفقدهم السيطرة على أعصابهم المتوترة دخول أحد الجنود الإسرائيليين إلى الساحة الخارجية له. ويعتبرون إسرائيل دولة معتدية محتلة مستعمرة لأرضهم ومقدساتهم وأن دخول جنودها حتى إلى الساحة الخارجية للمسجد سينجسه.
وتحضرني قصة سخيفة حدثت معي شخصيًا في زيارتي الأولى للمسجد الأقصى، حيث كنت أريد أن أرى الصخرة الكبيرة التي هي داخل المسجد والتي يقول البعض إنها نفس الصخرة التي ربط إبراهيم الخليل ابنه عليها ليذبحه إطاعة لأمر المولى – تبارك اسمه – بغض النظر عن من هو هذا الابن، إن كان هو إسحق كما جاء بإنجيل المسيح ومن قبله ما جاء بتوراة اليهود الذين هم أعلم بما قاله لهم جدهم الأول إبراهيم عن من هو ابنه الذي أخذه ليذبحه إطاعة لأمر المولى، سبحانه وتعالى، على كل حال كنت يومها قد عزمت على الذهاب إلى المسجد الأقصى لأصلي فيه صلاتي المسيحية للمسيح يسوع – تبارك اسمه – ليفتح عيون الجميع، يهودًا ومسلمين وأيضًا الغالبية العظمى من المسيحيين وسائر الأجناس والشعوب ليعرفوا من هو المسيح المصلوب والمقام من بين الأموات.
في طريقي للوصول للمسجد الذي لم أكن أعرف أين يكون موقعه بالضبط أو كيف يمكنني الوصول إليه، حيث أنها كانت المرة الأولى التي أزور فيها أورشليم، ضللت الطريق ووجدتني داخل حدود المنطقة العسكرية المكلف جنودها بحراسة كل المزارات السياحية والدينية المسيحية واليهودية والإسلامية المحيطة بهذه المنطقة، عند اكتشافي أنني في سيرى العشوائي دون خريطة أو بوصلة وصلت دون أن أدري إلى هذه المنطقة العسكرية، وأنه ليس بإمكاني الرجوع لأن هذا سيثير شك الجنود الإسرائيليين فيَّ وقد يؤدي معي إلى مالا يحمد عقباه، حيث أنني كنت يومها أزور إسرائيل حاملاً معي باسبوري المصري الأخضر فقط، قلت لنفسي ناجي، أنت دخلت خطأ، دون إذن أو سبب جوهري إلى منطقة عسكرية خطرة ممنوع اقتراب المدنيين، حتى اليهود أنفسهم منها دون تصريح، وأنت مصري، ولا تحمل سوى الجنسية المصرية والباسبور المصري، ولا شك إنك ستكون مادة للتسلية والإهانة بالنسبة لهؤلاء الجنود العسكريين الإسرائيليين، ولربما ستختفي إلى أبد الآبدين من هذه الأرض الآن. كان لزامًا عليّ أن أكمل سيري بثبات إلى بوابة كان يقف على حراستها الجنود الإسرائيليون، بادرني أحدهم بالقول، ما الذي جاء بك إلى هنا، وإلى أين أنت ذاهب، قلت الحقيقة أنا ضللت الطريق وأنا أبحث عن طريق يوصلني إلى حائط المبكى وبعدها للمسجد الأقصى، قال: وما هي جنسيتك، قلت: مصريًا، قال: هل لديك باسبور وڤيزا لزيارة إسرائيل، قلت نعم، بالطبع، قال: أرني باسبورك، قلت: تفضل هذا هو باسبوري، تصفحه العسكري ثم ابتسم ابتسامة عريضة وقال لي، أهلاً وسهلاً بك في إسرائيل، نحن الإسرائيليين نحب المصريين، لأنكم استضفتمونا في بلدكم لمئات السنين، قلت أشكرك، مددت يدي لآخذ الباسبور فلم يقدمه لي، بل قال، هذا ليس هو الطريق الصحيح للوصول لحائط المبكى والجامع، لكن حيث أنك مصري وغريب سأكلف أحد العساكر بأن يقتادك في طريق مختصر من هذه النقطة إلى الحائط من خلال السير عبر هذا المعسكر، هل لديك مانع، قلت لا، أشكرك جدًا على كرمك، ثم كلف هذا العسكري زميله باصطحابي إلى بغيتي، في مروري بمعسكر الجيش الإسرائيلي ورؤيتي للجنود في تدريباتهم وحراساتهم وأسلحتهم، كنت أقارن بين مروري بمعسكر للجيش وبين مروري أمام مبنى قديم متهالك مهجور كان يقع بالقرب من بيتي، وبالتحديد في ميدان الأفضل بحي شبرا، كان المبنى مكتوب عليه: ”ممنوع الاقتراب والتصوير!“، ذلك المبنى الذي كان يمثل لي كصبي صغير بؤرة المجهول ويصيبني بحالة من الخوف والزعر لمجرد المرور بجواره وكأنه بيت للأشباح متسائلاً عن حقيقته، فمن قائل إنه مخزن للأسلحة ومن قائل إنه كان مصنعًا للصابون وغيرها الكثير.
اقتادني العسكري حتى دخلت إلى ساحة المسجد، وقام بإعطائي الباسبور الخاص بي، طفت بالساحة الخارجية قبل دخولي إلى صحن المسجد نفسه، في اللحظة التي كدت أدخل فيها داخل قاعة الصلاة، بدأ مؤذن المسجد بالآذان والدعوة لصلاة الظهر. جاء مسرعًا رجل ليقف أمام الباب. كان هذا الرجل هو المكلف بالإشراف على دخول الزائرين إلى المسجد في غير مواقيت الصلاة، فرد الرجل ذراعيه مانعًا كل من أراد دخول المسجد من الأجانب، وقال بطريقة فظة عصبية عدوانية وبأعلى صوته: هذا وقت الصلاة، ممنوع الدخول، وأخذ يلاحق الداخلين بيديه ويسد أمامهم الطريق بكل عنف، حيث أن بعضهم، ولأنهم لا يفهمون اللغة العربية التي كان يتكلم بها الرجل، لم يكونوا فاهمين ماذا يريد هذا الرجل منهم أو حتى ماذا يحدث بالضبط، أخذت أقارن بين ما حدث من الحارس الإسرائيلي لمعسكر حربي مع غريب تواجد بدون سبب مقنع داخل المعسكر وبين حارس مسلم لمسجد يتوافد عليه المئات من الغرباء كل يوم. قلت لنفسي كيف يصرخ هذا الفلسطيني المسلم في الناس والسواح بهذه الطريقة غير المهذبة، وبغض النظر عن أهمية طريقتنا الإنسانية اللطيفة كشرق أوسطيين التي تحتم علينا أن نحترم الضيف والغريب والمحتاج إلينا، فكم وكم، يجب أن تكون طريقة تعاملنا لمن نحتاج نحن إلى مجيئهم لبلادنا لزيادة دخلنا من السياحة!، ألا يعلم هذا الرجل الناعق أن فلسطين تحتاج إلى هؤلاء السواح ولدولاراتهم وأننا جميعًا لابد أن نوحد الجهود لجذبهم إلى بلادنا، تمامًا كما تفعل إسرائيل بالرغم من اختلافهم عنا في كل طباعهم؟، ألا يعطي هذا صورة غير إنسانية للمسلمين وللعرب جميعًا في أعين هؤلاء الأجانب؟، هل هذا غل وحقد ضد الأجانب أم عيب في الرجل وفي تربيته وتعليمه وفيمن ائتمنه على الوقوف على باب المسجد الأقصى، ليكون واجهة للإسلام والمسلمين لدى الأجانب؟ تراجعت خطوة للوراء وكنت على وشك أن أستدير وأنتظر خارج المسجد حتى تنتهي الصلاة ثم أدخله، أشار لي الرجل ذاته وقال بصوت غاضب وحانق على الزوار: ” إنت تدخل، الكلام ده مش ليك، أنت عربي مثلنا، الكلام ده للأجانب النجسين أولاد الكلب دول“.
والحقيقة إنها في كل مرة تتكرر فيها مواجهات بين اليهود والمسلمين في المسجد الأقصى، أسأل نفسي: هل حقًا تريد إسرائيل هدمه وبناء هيكلها القديم مكانه، أم إنها كذبة كذبها المخلصون أو المغرضون من المسلمين على أنفسهم وصدقوها؟، ومنهم من اتخذها حجة لإنشاء تنظيمات مسلحة وتحقيق أغراضه الخاصة، بدءًا من جمال عبد الناصر الذي كان يحلم بتحرير القدس ويملأ عقولنا ورؤوسنا الصغيرة يومئذ بكذبة أننا سنلقى إسرائيل ومن هم وراء اسرائيل في البحر، والإخوان المسلمون الذين لا حديث لهم سوى تحرير القدس وتحرير فلسطين، وبن لادن ومن بعده قاعدته يريدون تحرير القدس، وكتائب القدس، وحماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، وحزب الله وإيران وتونس وداعش والإنسان العربي المسلم البسيط واتحاد الدول الإسلامية وجامعة الدول العربية وقادة الدول العربية جميعها بلا استثناء في وقت أو آخر كانوا لا حديث لهم سوى عن تحرير القدس وتحرير المسجد الأقصى. ومع كل ما قاله وعمله وتوعده هؤلاء الناس وما أسفرت عنه مجهوداتهم وخططهم وإمكانياتهم هو ليس أكثر من اعتراف أمريكا والعديد من الدول الأخرى أن القدس عاصمة لإسرائيل.
لكن يبقى السؤال، هل حقًا تريد إسرائيل هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان مكانه؟، والإجابة البسيطة على هذا السؤال، لا والأكثر من ذلك هو أن إسرائيل تريد ويهمها أن يبقى المسجد الأقصى مكانه وذلك للأسباب الآتية:
١- إسرائيل ليست مطالبة من الله وبحسب ما جاء في التوراة أن تبنى الهيكل مرة أخرى، نعم قد تنبأ دانيال النبي بأن الهيكل سيبنى في الأزمنة الأخيرة، لكن ليس لأن الله سبحانه يريد ذلك أو أوصاهم وطلب منهم ذلك، بل هم الذين سيبنونه من تلقاء أنفسهم ورغبة منهم في تقديم ذبائحهم الحيوانية مرة أخرى، الأمر الذي أبطله المسيح منذ ألفي عام بذبيحة نفسه على الصليب، كما هو واضح كل الوضوح من تعاليم العهد الجديد كله. فلم يعد هناك احتياج من وجهة النظر الروحية المسيحية لبناء الهيكل مرة أخرى، فلقد انتهى عهد الهيكل وتقديم الذبائح بالنسبة لله وللمسيح منذ أن قال السيد الرب يسوع بفمه الطاهر لمعاصريه: ”هوذا داركم تترك لكم خرابًا“، وفي نبوته عن المستقبل في سفر الرؤيا، قال يوحنا الحبيب إن الهيكل سيُبنى، لكن سيكون مقرًا وخدمة ومكان عبادة لا ليهوه القدير، الله العلي سبحانه، كما كان في القديم قبل مجيء المسيح، بل سيكون لتتميم أعمال الوحش والنبي الكذاب وإبليس الحية القديمة، واليهود بالطبع لا يقبلون ولا يؤمنون بهذه النبوة، حيث أن من تنبأ ببناء الهيكل وتقديم الذبائح مرة ثانية هو يوحنا كاتب سفر الرؤيا وهو من أتباع المسيح وهم من المغضوب عليهم والضالين.
٢- المنطقة الواقعة بالضبط في مكان المسجد الأقصى اليوم ووفقًا لما جاء في سفر الرؤيا أيضًا، فهذه المنطقة جاء بحصر اللفظ فيها أنها أُعطيت للأمم، أي لمن هم غير اليهود، وأنها غير داخلة في المنطقة التي سيُبنى بها الهيكل أو في قياسات البيت الذي سيبنيه اليهود. جاء هذا على لسان ملاك مرسل من الله إلى عبده يوحنا ليريه ما لابد أن يكون ويحدث في هذه المنطقة بالذات، يقول يوحنا: “ثم أعطيت قصبة شبه عصا، ووقف الملاك قائلاً لي: «قم وقس هيكل الله والمذبح والساجدين فيه. وأما الدار التي هي خارج الهيكل فاطرحها خارجًا ولا تقسها، لأنها قد أعطيت للأمم، وسيدوسون المدينة المقدسة اثنين وأربعين شهرًا”.
٣- لم يقل المسيح أبًدا ولم يأمر بأن يبنى الهيكل، مرة ثانية وإلا كنا قد قلنا إنه سيبنى حتمًا، بل قال وتنبأ – تبارك اسمه – أن ذلك الهيكل سيترك خرابًا ولن يبقى فيه حجر على حجر لن ينقض، وهذا ما تم بالفعل في سنة ٧٠ ميلادية، بل والأكثر من ذلك أنه كان يتكلم في العديد من المرات أنه هو، المسيح نفسه تبارك اسمه، أي جسده هو الهيكل كما جاء في القول: ” أجاب يسوع: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه». فقال اليهود: «في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟» وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده. فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع”.