د. فريز صموئيل
جاء في إنجيل يوحنا: “وهذه هي شهادة يوحنا المعمدان حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت. فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح. فسألوه: إذًا ماذا، إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا. فقالوا له: من أنت لنعطي جوابًا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي. وكان المرسلون من الفريسيين. فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ أجابهم يوحنا قائلاً: أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم لستم تعرفونه. هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه.. وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه فقال: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم. هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي. وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل، لذلك جئت أعمد بالماء. وشهد يوحنا قائلاً: إني رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي، الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (لو1: 19-34).
كتب عبد الأحد داود الآشوري: “اعتاد الصارخ العظيم في البرية أثناء مواعظه للجماهير أن يصرخ بصوت عال، ويقول: أنا أعمدكم بالماء وذلك للتوبة، وغفران الخطايا، ولكن هناك شخصًا قادمًا بعدي وأقوي مني لدرجة أني لا أستحق حل سيور حذائه، وسيعمدكم بالروح والنار. ثم يذكر المؤلف أن النبي الذي يتنبأ عنه المعمدان ليس هو المسيح بل محمد (محمد في الكتاب المقدس، ص 167– 185).
وفيما يلي نناقش أدلة المؤلف المزعومة:
1- إن كلمة “بعد” تستبعد عيسى بكل وضوح من أن يكون هو النبي المُبشر به، لأن عيسى ويوحنا ولدا في آونة واحدة، وعاصر أحدهما الآخر. يقول يوحنا: إن الآتي بعدي هو أقوي مني، وكلمة “بعد، تدل على مستقبل غير معلوم”.
لقد جاء يوحنا المعمدان ليمهد الطريق للمسيح، والمُمِهد يأتي قبل المُمِهد له مباشرة وليس بعده بستة قرون. وبعدي لا تدل على مستقبل غير معلوم، فعندما أقول فلان سوف يأتي بعدي، فربما سيأتي بعد ساعة واحدة فقط. وعندما تحدث يوحنا قال: “في وسطكم قائم لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي” فهو يتحدث عن شخص موجود فعلاً في وسطهم وسيبدأ كرازته بعده مباشرة. وهذا ما حدث فعلاً فعندما قُبض على يوحنا المعمدان وسجن بدأ المسيح كرازته (مر 1: 3).
وقد شهد المعمدان أنه يعني بقوله المسيح “وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه. فقال: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم. هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي” (يو1: 29 و30).
والذي لا يعرفه المؤلف ورغم ادعائه أنه يعرف اللغة اليونانية – أن الكلمة في الأصل اليوناني ليس لها دلالة زمنية بل تعني يأتي ورائي أو خلفي.
2- يقول المؤلف: “إن المعمدان قدم عيسي على أنه المسيح الحقيقي، ونصح الجماهير بإطاعته واتباع تعاليم إنجيله، غير أنه أخبر قومه بوضوح إن ثمة كوكباً آخر عظيماً هو الأخير الخاتم”.
حقيقة لست أدري أين جاء هذا القول. عندما ذاع صيت يوحنا المعمدان ونظرت إليه الجماهير كنبي أرسل الكهنة واللاويين يسألونه: هل أنت المسيح؟ فأقر واعترف أنه ليس هو المسيح. وعندما سألوه: هل هو إيليا؟ لأنهم كانوا يعتقدون أن إيليا ينبغي أن يأتي قبل المسيح (مت 17: 2). وهذا ما فهموه من نبوة ملاخي: “هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم” (ملا4: 5و6).
وطبعًا ليس المقصود إيليا بذاته بدليل ما جاء في إنجيل لوقا عنه: “ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم ويتقدم أمامه (أي أمام المسيح) بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعبًا مستعدًا” (لو1: 16و17). وعندما سألوه: هل هو النبي؟ وكانوا يقصدون النبي الذي تنبأ عنه موسى (تث 18). وعندما سألوه هذا السؤال لم يكن سؤالهم عن شخص سيأتي بعد المسيح لأن المسيح لم يأت بعد، ولذلك عندما سألوا إن لم تكن أنت المسيح. فهل أنت إيليا أو النبي؟ وهم بذلك يقصدون من يسبق المسيح. وبالتالي فليس في هذا النص أي نبوة عن شخص سيأتي بعد المسيح. ونحن نعلم أن ما جاء في (تث 18) نبوة عن المسيح وليس أي شخص آخر. ومن المهم أن ندرك أنه لا تُبنى عقيدة على سؤال سائل، فربما يسأل عن جهل أو خطأ.
3- يقول المؤلف: “لم يكن عيسى المسيح هو المقصود عند يوحنا، لأنه لو كان الأمر كذلك لاتبع عيسى وخضع له كتلميذ وتابع، ولكن لم يكن الأمر كذلك، وعلى العكس نجده يعظ ويعمد.. ويتنبأ بمجيء نبي آخر أقوى منه، دون أن يعير أدنى التفات لوجود ابن خالته في يهوذا أو الجليل”.
هل نستطيع أن نقول على نفس القياس، لو كان محمد هو المقصود فكان لابد أن يظل يوحنا حيًا حتى يأتي محمد بعد ستة قرون ويخضع له كتلميذ وتابع.
وبالطبع هذا الزعم غير صحيح، لأن يوحنا جاء ليمهد الطريق أمام المسيح “ولم يكن هو النور بل ليشهد للنور” (يو 1 : 8)، ولم يكن هناك وقت ليتبع يوحنا المسيح ويكون له تلميذًا، فالمسيح بدأ كرازته بعد القبض على يوحنا وإيداعه السجن لفترة قصيرة ثم قطعت رأسه بواسطة هيرودس.
4- يقول المؤلف: “لو كان عيسى حقيقة هو الشخص الذي تنبأ عنه المعمدان على أنه “أقوى” منه لدرجة أنه لم يكن أهل للانحناء وحل سيور حذائه، وأنه سوف يعمد بالروح والنار، لو كان الأمر كذلك، لما كان هناك ضرورة أو معنى لتعميده في النهر على يد شخص أقل منه.. وأن تعبير عيسى القائل: “يجدر بنا أن نحقق كل بر” قول غير مفهوم.. والمعنى الوحيد أن يوحنا اعتقد لفترة قصيرة أن المسيح رسول الله الخاتم العظيم، وبالتالي أحجم عن تعميده، ولكن حينما اعترف عيسى بهويته، عندها فقط وافق يوحنا على تعميده”.
المسيح قد تعمد من يوحنا، للأسباب التالية:
أ- عندما رأى المسيح الخطاة يتعمدون من يوحنا قرر أن يأخذ مكانًا بينهم حاسبًا نفسه واحدًا من الجنس البشري، أخذاً بخضوعه هذا مكان الخطاة مشاركًا لهم، مثله في ذلك مثل إنسان غني يشارك في حركة شعبية للفقراء، فهو يشارك لا لأجل منفعته أو حاجته بل لأجل منفعة الآخرين. فالمسيح هنا يشجع التائبين ويجعل نفسه واحداً منهم متحداً معهم. متمماً لكل وصايا الناموس.
ب- لقد كانت المعمودية هي الوقت المناسب ليعلن فيه المسيح بدء خدمته الجهارية وليعلن الآب من السماء أن هذا هو ابن الله الحبيب. وأن وقت رسالته على الأرض قد بدأ.
لقد جاء المسيح إلى يوحنا المعمدان ليتعمد، ورفض يوحنا المعمدان في البداية. وقال له كيف تأتي أنت إليّ، وأنا أحتاج أن أعتمد منك؟ فقد عرف يوحنا المعمدان من هو المسيح. وشهد عنه قائلاً: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم. والله قد أعلن له حقيقة المسيح، ولذلك رفض. وعندما قال له المسيح: “ينبغي أن نكمل كل بر” وكان يقصد أنه ينبغي كإنسان مولود تحت الناموس أن يتمم كل وصايا الناموس، سمح له يوحنا المعمدان.
5- يقول المؤلف: “إن الحقيقة القائلة بأن يوحنا عندما كان في السجن أرسل تلاميذه لعيسى يسألونه: هل أنت النبي الذي سيأتي، أم نتوقع واحداً آخر؟ هذه الحقيقة تظهر بجلاء أن المعمدان لم يعرف موهبة النبوة في عيسى إلا بعد أن سمع وهو في السجن بمعجزاته.
هذا القول غير صحيح، فقد شهده يوحنا المعمدان عن شخصية المسيح، وعمله الفدائي قبل سجنه، ولكن ما حدث هو أن يوحنا وهو في السجن أصابته بعض الشكوك لأنه ربما كان يتوقع أن يقود المسيح ثورة شعبية لإنقاذه من السجن، فأرسل تلاميذه ليسأل المسيح، وأجابه المسيح بأن أقواله ومعجزاته تعلن حقيقته أنه هو المسيا المنتظر الذي تنبأ عنه أنبياء العهد القديم.
6- يقول المؤلف: “يعترف يوحنا المعمدان بأن محمد أقوى منه، وهذا يظهر في دخوله الظافر إلى مكة وتدمير الأصنام وتطهير الكعبة. ويقول إن يوحنا المعمدان بقوله: “اهربوا من الغضب الآتي” يعني أنه عند قدوم محمد سوف تنزع جميع الامتيازات النبوية والملكية من اليهود، وبالفعل تحقق ذلك بعد حوالي ستة قرون عندما سويت آخر معاقلهم بالأرض وقام محمد بتدمير تحصيناتهم”.
لو قلنا إن “أقوى” تعني محمد، فهناك كثير من القادة والفاتحين قد حاربوا وانتصروا ويستطيع كل واحد منهم أن يقول إن يوحنا المعمدان قد تنبأ عنه.
وفي هذا النص يطلب يوحنا من اليهود “الهروب من الغضب الآتي” عقاباً لخطاياهم، ولذلك يقول لهم: “اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة” (مت 3 : 8). وإذا كان المؤلف يرى في هذا النص انتزاع جميع الامتيازات النبوية والملكية من اليهود، فهذا ما تم قبل محمد بعدة قرون، فعند مجيء المسيا نزع منهم صولجان الحكم (إصدار حكم الموت) وفي عام 70م (وحسب نبوات المسيح التي جاءت في مت 24) تم تدمير الهيكل وتشتيت اليهود.
مما سبق نرى أن المعمدان لم يتنبأ عن محمد، وما يقول به المؤلف غير صحيح.
صح