جريدة الطريق

إنهم يقتلون الكتاكيت

د. ناجي يوسف

ما أعجب هذا الشعب المصري الذي مزج الرب في وسطه روح الغي، كما ورد في الوحي من جهة مصر، والذي دوَّنه القدير تبارك اسمه في الإصحاح التاسع عشر من سفر إشعياء؛ شعب يقوم ويثور ويغضب ويناقش ويختلف ويتهم بعضه بعضًا بالخيانة والعمالة والجشع وعدم الرحمة للفقراء والمعوزين حول قضايا مجتمعية غذائية أمنية بسيطة وسهلة الحل بالمقارنة بغيرها من القضايا الأخرى.

وفي الوقت نفسه، يترك هذا الشعب القضايا الكبرى المصيرية التي يمكن أن تعصف وتطيح به دون ذكر أو اهتمام، بل وفي بعض الأحيان تُترك القضايا الكبرى، عمدًا مع سبق الإصرار، لغرض ما في قلوب وعقول مَنْ ينبغي أن يكونوا المدافعين والمسئولين الأول عن حل مثل هذه القضايا.

ولعل أوضح مثال على ما أقول هو الضجة الكبيرة التي أثيرت في الجرائد والمجلات وبرامج التليفزيونات والفضائيات عن مسألة قتل الكتاكيت، وخروج العديد من وسائل الإعلام لبث ما قام به أكثر من عشماوي واحد لقتل الكتاكيت في مزارع كثيرة وإلقائها في مقابر جماعية للتخلص منها.

وبالرغم من أهمية هذه القضية، ومن أهمية إيجاد حلول جذرية لها، حيث إنها ستؤدي في النهاية إلى ارتفاع أكثر وأكثر في ثمن بيع الدجاج، وتحمُّل المواطن العادي الفقير، الذي يطمع في أن يقدّم لأولاده الصغار مجرد أكلة واحدة من الدجاج كل شهر، وحده فرق السعر الناتج عن هذا الارتفاع في سعر الدجاجة؛ نعم، بالرغم من أهمية هذه القضية إلا أن ذهني وتفكيري لم يتوقفا عند أمر قتل الكتاكيت من الدجاج، بل أخذ ذهني يفكر في أمر قتل الكتاكيت من الأطفال بني آدم أيضًا، فمن منا لم يستخدم كلمة “كتكوت” لوصف طفل صغير أو طفلة جميلة صغيرة، تجري وتتكلم بسرعة دون توقف أو تفكير فيما يقول، والسبب في ذلك هو أن أصل كلمة “كتاكيت” حسب ما وردت بالقواميس العربية هو أنها مشتقة من “كتكت” الشخص أي أكثر من الكلام في سرعة، أو ضحك ضحكًا خافتًا من دون قهقهة، وهي صفات واضحة أيضًا في الأطفال الصغار من البشر.

وما من شك في أن مسألة قتل الصغار أو الكتاكيت من الدجاج أو الطيور على اختلافها، ولأي سبب من الأسباب، لهي جريمة كبرى بكل المقاييس، فكم وكم تكون المقارنة بقتل الأطفال الصغار من بني البشر.

ولعل المشكلة الكبرى في عالمنا المادي هذا الذي نعيش فيه هي أن كل ما يعمله الإنسان إنما يعمله بدافع مادي وحسابات مادية فقط في وقت التقييم لأمر ما أو اتخاذ قرار لعمل مشروع ما، دون التفكر فيما هو أبعد من العالم المادي، وبالتالي عدم اعتبار أو الأخذ في الحسبان البعد الأخلاقي والمجتمعي والديني والنفسي والروحي للصغار من الأطفال، أو بتسمية أخرى لـ “كتاكيتنا” الصغار من الأطفال.

ففي أمريكا، بلد الحريات الحقيقية، تطالب المرأة بحقها في قتل كتكوتها أي طفلها في أي وقت وبأية طريقة تريد، بدءًا من الأسبوع الأول لحملها وحتى لمدة أسبوع بعد ولادته، وتعتبر هذا الأمر حقًا مكفولًا لها بالدستور والقانون، حيث إنها ترى أنها تمتلك جسدها، وتمتلك طفلها أو كتكوتها، وأنها الوحيدة التي لها سلطان عليهما، ولها حق التصرف فيهما بالقتل أو الاستحياء، كما تشاء وكما تقرر هي وحدها، الأمر الذي لم تتحدث عنه المرأة العربية عامةً أو المصرية خاصةً حتى الآن لاعتبارات كثيرة لا داعي للخوض فيها.

لكن من الناحية الأخرى لا ينتبه الوالدان ولا المدرسون أو المربون أو الواضعون للمناهج الدراسية، وخاصةً في مراحل الدراسة الأولى، إلى أنهم يقومون بفعل أسوأ بكثير جدًا مما تطالب به الغالبية العظمى من النساء الأمريكيات، فما تطالب به النساء الأمريكيات، بالرغم من شناعته وشره، وهو قتل أطفالهن في أرحامهن أو بعد ولادتهن لهم، لن يتسبب، إن حدث، في إيجاد طفل مشوه مشوش ذهنيًا وتعليميًا ومجتمعيًا ودينيًا، أما ما يحدث مع الكتاكيت أو الأطفال المصريين فهو قتل يومي، إن كان بقصد أو بغير قصد، وهذا ينتج عنه كتكوت صغير سرعان ما يكبر ويصبح ديكًا كبيرًا أو دجاجة كبيرة تحمل في كيانها من الأمراض النفسية والروحية والمجتمعية والذهنية ما ينتشر بسرعة بين بقية الكتاكيت والديوك والدجاج، ويحصد المجتمع المصري كله نتائجه المدمرة الشريرة.

فعندما تُربى كتاكيت المصريين، على اختلاف أنواعهم ودياناتهم، على كره الكتاكيت الأخرى، المختلفين في الدين أو القناعات الشخصية المجتمعية، ألا يُعتبر هذا قتلًا للكتاكيت الصغار؟

عندما تُربى كتاكيت المسلمين على أن كتاكيت المسيحيين هم الكفار والمغضوب عليهم والضالون، ألا يُعتبر هذا قتلًا للكتاكيت الصغار من الجانبين؟

عندما يُلَقن الكتاكيت الصغار أن أبطال الفتوحات الإسلامية الذين حاصروا البلاد واستعمروها وسبوا أهلها ورملوا نساءها ونهبوا ثرواتها وقطعوا ألسنة المعترضين منهم على هذا الفتح، أو مَنْ أصروا على استخدام لغاتهم الأصلية، سواء القبطية أو الكلدانية أو الآشورية، والتي لم يكونوا يعرفون كيف يتحدثون بغيرها، ألا يُعتبر هذا قتلًا للكتاكيت الصغار؟

وماذا ننتظر منهم عندما يصبحون ديوكًا كبارًا؟

وعندما يُربى أطفال المسيحيين على أننا أبناء الكنيسة الأم والتي حافظت على التعليم الصحيح ومَنْ ليس من حظيرتنا، أو معامل تفريخنا، من الكتاكيت الأخرى، هم على ضلال مبين، وهم المنشقون والأجانب المستوردون، ألا يُعتبر هذا قتلًا للكتاكيت الصغار؟

وعندما نترك أطفالنا المسيحيين والمسلمين لبرامج إذاعية وتلفزيونية وتطبيقات إنترنت لتعلمهم كل ما يتنافى مع الأدب ومحاسن الأخلاق، ألا يُعتبر هذا قتلًا للكتاكيت الصغار؟

وعندما نحاول جذب صغارنا لحضور اجتماعاتنا وحفلاتنا وخدماتنا الروحية بأن نغريهم لحضور لهذه اللقاءات بساحر ندعوه نحن المسئولين عن هذه الاجتماعات ليمارس خداعه أمامهم؛ ساحر لا يعرف هو نفسه، وبالتالي لم يقل لنا، بأية قوة أرضية نفسية أو شيطانية أو حتى سماوية تم فك لسانه للتكلم به، بعد أن كان مربوطًا لا يتكلم لمدة 16 سنة، ولم يقل لنا إذا ما كان لديه اختبارًا روحيًا حقيقيًا تم فيه التقابل مع شخص المسيح بالروح القدس، فوَلِد من جديد أم انه ما زال لم يتقابل معه، تبارك اسمه، ولم يقل لسامعيه أو مشاهديه كيف شُفي من البكم الذي لازمه طوال حياته حتى صار عمره 16 سنة.

حينما نقدم لأطفالنا المسيحيين هؤلاء السحرة وناقشي الوشم أو كما يعرفه الصغار بالـ “التاتو” لأسماء الشيطان على أذرعهم، ونقدمهم لصغارنا وكبارنا على أنهم خدام المسيح، ألا يُعتبر هذا قتلًا للكتاكيت الصغار؟ أليس من الشر العظيم ألا يفكر المستثمرون في مجال الكتاكيت، وقد ورد ببعض الإحصائيات أن 60% من أصحاب مزارع الكتاكيت من الخليجيين الذين لا يهمهم المصريين على الإطلاق، إن كانوا يحتاجون إلى هذه الكتاكيت التي أعدموها أم لا؟ فكل ما يهمهم هو أن يستثمروا أموالهم في مصر لتعود عليهم بأرباح مادية طائلة، وبالتالي يتحكمون بالسليقة في السوق المصري لمنتجاتهم بشكل أو بآخر. وهؤلاء كما قلتُ لا يفكرون إلا في أرباحهم وفي العائد المادي على أموال استثماراتهم في مصر، ولا يهمهم في كثير أو قليل الفقراء والغلابة المصريين الذين يشتهون قطعة لحم من دجاجة، أو حتى كتكوت، مع طبق من الشوربة الناتجة عن غليانها في ماء كثير.

إن الشعب الذي يقتل كتاكيت دجاجه لا يؤتمن على كتاكيت أطفاله.

أما آخر ما أكتبه في هذا المقام فهو أن طريقة التعامل مع مثل هذه الأزمات بالقتل والإبادة كحل لأية مشكلة، كمشكلة قتل الكتاكيت لأن تكلفة تربيتها ستكون أكبر من ثمن بيعها للمواطن الفقير، ترجع للمنهج النفسي والعقلي والثقافي الذي يتبعه الإنسان، وبالتالي المجتمع كله، للتعامل مع مشاكله، فهناك فرق شاسع كبير بين ثقافة الموت وثقافة الحياة؛ ثقافة الحياة تسعى للحياة والاستمتاع بالحياة والبحث عن الحلول لكل مشاكل الحياة، أما ثقافة الموت فترى أن الموت والقتل والإبادة هي أسهل وأسرع الطرق للتخلص من المشاكل والأزمات، فعندما نخاف من أنفلونزا الخنازير نبيد ونقتل كل الخنازير، وعندما نخاف المعارضة سواء داخل الدولة أو الكنيسة نغتال المعارضين، إما حرفيًا بتصفيتهم جسديًا أو معنويًا بإلصاق التهم والأكاذيب بهم وبعائلاتهم.

ولا شك أنه لعلاج هذه الظاهرة الدموية ولمواجهة سيطرة ثقافة الموت علينا لا بد أن يبدأ التغيير بها من الكتاكيت فصاعدًا؛ لا بد أن نكف عن قتل الكتاكيت في الكتاتيب والمدارس والجامعات الحكومية والدينية.

لقد تعرضتُ أنا شخصيًا لحادثة لقتلي نفسيًا وأنا غض صغير، يوم أرادت مُدرستي في مدرسة الأنصاري الإبتدائية بالسويس، عندما كنتُ في السابعة من عمري، أي في السنة الثانية لدخولي الدراسة الإبتدائية، أن تقتلني بسكين حاد استخدمته معي مُدرسة الفصل هذه، حين سألتني أمام جميع زملائي، الكتاكيت الصغار، إن كنت أؤمن أن المسيح يسوع تبارك اسمه هو الله أم لا، كانت إجابتي بالطبع هي: نعم، فهذا ما سمعته وتعلمته ككتكوت صغير من والداي ومن كنيستي في مدرسة الأحد، عندها أصابتني مُدرستي بسكينها في مقتل عندما سألتني: كيف يكون سيدنا المسيح هو الله وهو ينام ويتعب ويأكل ويشرب ويدخل إلى دورة المياه؟

هل يحتاج الله سبحانه أن يدخل إلى دورة المياه؟ يومها انحبس الدم في عروقي، واختفى صوتي خلف أحبالي الصوتية، ولم أستطع أن أجيب على سؤالها، فكيف لكتكوت مثلي يومها أن يجاوب أو يدافع عن نفسه أمام قاتله؟

وكيف يهرب من هذا السكين النازل على رقبته ليفصل جسده عن رأسه الذي توقف تفكيره؟

وعندئذٍ ضحكت المُدرسة، وضحك التلاميذ، الكتاكيت، في الفصل على كتكوت زميلهم وهو يرفرف من تأثير جرح السكين الذي استخدمته مُدرسته لقتله.

يومها جلستُ في مكاني دون أن أنطق ببنت شفة إلى أن ذهبتُ إلى منزلي بعد انتهاء اليوم المدرسي، وما أن دخلتُ إلى بيتي حتى انفجرتُ ككتكوت صغير يكتكت ويتكلم بسرعة ودون تفكير مُعبِّرًا عن كرهي للمدرسة ولمُدرستي ولزملائي الذين ضحكوا عليّ، وقررتُ ألا أذهب إلى المدرسة مرة أخرى مهما كانت الظروف.

ولولا تدخُل أبي وأمي في الأمر، وتطييب خاطري، والتأكيد لي بأن مُدرستي هي المخطئة، وأنني كنتُ على صواب عندما قلتُ لمدرستي أن المسيح يسوع هو الله الظاهر في الجسد، وأنه هكذا ينبغي أن يجاوب كل مسيحي شجاع مؤمن بعقيدته، حيث صوّروا لي أنني بطل لأني شهدتُ للمسيح أمام مُدرسة لم تتعلم إلا قتل الكتاكيت، وأكدوا أنها ستدفع ثمنًا غاليًا جدًا إن لم تتب للمسيح نفسه عن خطئها الشنيع بمحاولة قتلي ككتكوت، لولا كل ذلك ولولا محبة المسيح التي افتقدتني، وملأت قلبي، ولولا مقابلته معي شخصيًا في اختبار تجديدي وتغييري وغفرانه لي، وطلبه مني أن أغفر للمسيئين إليَّ كما غفر لي هو سبحانه، لكنتُ اليوم أشر إنسان على وجه هذه الأرض، ولأصبحتُ قتالًا للناس جميعًا ومؤذيًا لهم، وخاصةً لأولئك الذين يخالفونني في الدين، ولربما كنتُ قد أصبحتُ زعيم عصابة دموية متخصصة في قتل المدرسين والمدرسات جميعًا، وخاصةً المسلمين منهم.

اللهم احمِ كتاكيتنا الصغار من القتل والإبادة،

وأعط لأولي الأمر منا حكمة في التصرف والقيادة،

وامنحهم قوة على التفكير والتدبر لحل مشكلاتنا والإفادة

من كل ما تمر به البلاد من خير أو شر أو تواكل وبلادة.

اللهم ابعد عنا العوز والجوع وامنحنا من لدنك السعادة.

فبك وحدك يليق التعظيم والإكرام والعبادة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى