د. ناجي يوسف
لا شك ان المتابع ليس الجيد فحسب بل المتابع السطحي لما يحدث في العالم اليوم بدءًا من الدولة العظمى، والتى هي بلا منازع او منافس، امريكا، إلى أصغر الدول الإفريقية التى لا وجود لها على خارطة تواجد البشر الأحياء يجدها كلها مشتركة في امر واحد فقط، وهو يتواجد بها جميعها ويحكم ويتحكم فيها كلها ، هذا الأمر المشترك الواحد هو الفساد بمختلف انواعه وصفاته وأشكاله، سواء اكان فسادًا دينيًا، ام سياسيًا، ام مجتمعياً الى آخره، وكل منها مرتبط بالآخر تمام الإرتباط. فلا يمكن ان يتواجد فساد سياسي او مجتمعي إلا ويسبقه تواجد فساد ديني روحي، ولا شك أن الفساد الظاهر او الخفي في مجال ما من مجالات الحياة لهو خير دليل على وجوده في كل مجالات ونواحي الحياة للفرد والمجتمع والدولة، ومن المؤكد أن الفساد يبدأ أول ما يبدأ بإنسان واحد يصيبه فساد الروح فيصاب على إثره بالفساد في بقية نواحي حياته. والفساد مرض خطير مُعدٍ سريع الانتشار ويُوَرَّث من الآباء للأبناء والأحفاد، هذا ما حدث تمامًا ليس مع الجنس البشري الذي بدأ بأبينا آدم وأمنا حواء فحسب بل حدث قبل خلق الإنسان وتكوينه، حين أصاب الفساد الملاك الساقط “زهرة بنت الصبح” أي إبليس، الشيطان، الوسواس الخناس، وكل مَنْ تبعه من ملائكته الساقطين، فيخاطبه الخالق العظيم سبحانه وتنازل إلينا بالقول: “أَفْسَدْتَ حِكْمَتَكَ” ويقول عنه وعن فساده كتاب الكتب، الكتاب المقدس: “كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟ وَأَنْتَ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاِجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشِّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ. لَكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ إِلَى أَسَافِلِ الْجُبِّ.” ويقول تنزيل الحكيم العليم عنه في موضع آخر: “أَنْتَ الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ. وَأَقَمْتُكَ. عَلَى جَبَلِ اللَّهِ الْمُقَدَّسِ كُنْتَ. بَيْنَ حِجَارَةِ النَّارِ تَمَشَّيْتَ. أَنْتَ كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ. بِكَثْرَةِ تِجَارَتِكَ مَلأُوا جَوْفَكَ ظُلْمًا فَأَخْطَأْتَ. فَأَطْرَحُكَ مِنْ جَبَلِ اللَّهِ وَأُبِيدُكَ أَيُّهَا الْكَرُوبُ الْمُظَلِّلُ مِنْ بَيْنِ حِجَارَةِ النَّارِ. قَدِ ارْتَفَعَ قَلْبُكَ لِبَهْجَتِكَ. أَفْسَدْتَ حِكْمَتَكَ لأَجْلِ بَهَائِكَ. سَأَطْرَحُكَ إِلَى الأَرْضِ وَأَجْعَلُكَ أَمَامَ الْمُلُوكِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْكَ.”
وهكذا استطاع الشيطان الفاسد أن يفسد خليقة الله الممثلة في آدم وحواء وهكذا أفسد لا الإنسان فقط بل كل خليقة المولى تبارك اسمه وفقًا للنص الكتابي: “لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ.”
وهكذا انتشر الفساد إلى كل إنسان، وفي كل مكان وكل دولة وكل مؤسسة سواء دينية أو غير دينية، مسيحية او غير مسيحية. ومهما تشدقت حكومة من حكومات العالم بأنها أم الحرية والديمقراطية محاولة أن تخفي فسادها فلا بد أن تظهر حقيقة أنها تحتوي على الفساد داخلها الذي لا بد أن تفوح رائحته العفنة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فأمريكا هي أكثر بلاد العالم حرية وديمقراطية ومساواة بين الناس، فهي تمنح مواطنيها حرية التعبير عن الرأي، فمن حق المواطن رجل الشارع العادي أن ينتقد حتى رئيسها ووزرائه دون خوف من انتقامه أو إرساله لزائر الفجر أو الليل للقبض عليه كما يخاف المواطن المسكين في كل بلادنا المعروفة بالعربية والذي تربى على الخوف والقهر والطاعة العمياء ولا تناقش ولا تجادل، والأمثال السخيفة مثل “خلينا في حالنا لا يتقل مقدارنا”، و”دع الملك للمالك”، و”المايه لا تجري في العالي”، و”على قدر لحافك مد رجليك”، وغيرها من المقولات الغبية المعوقة للتقدم والسالبة للحياة الكريمة. وحتى أمريكا التي يقوم نظامها القضائي على وجود نظام المحلفين وهم أناس يُختارون من بين مواطنيها ليجلسوا في بعض القضايا الهامة ليدرسوا مع القاضي القضية وليقرروا في النهاية مصير المتهم وإقرار إن كان مذنبًا أم لا، فلا يُترك الأمر للقاضي وحده ليحكم على هواه ووفقًا لقناعاته الدينية أو الشخصية أو النفسية والضميرية، كما يحدث كثيرًا في بلادنا، ولذا فلن يستطيع قاضٍ في أمريكا أو في دولة أوروبية أن يحكم على أطفال صغار مثَّلوا مشهدًا لما يعمله الداعشيون من قتل للناس ثم صلاة للمولى بخمس سنوات سجن، على سبيل “قرصة الودن”، كما وصف هذا القاضي سبب إصداره لذلك الحكم والذي صدر على الشباب الصغار لا لشيء إلا لكونهم مسيحيين. ولا يمكن أن تُعرى أم في قرية الكرم وتُحرق المنازل دون عقاب رادع لمرتكبي هذه الجرائم، ولا يمكن أن يموت كاهن وأحد شمامسته في قرية طحا العمودين على يد رجل شرطة دون أن يسمع الناس عن محاكمة عادلة لذلك الضابط الذي أغرق الكاهن والشماس في الترعة، ولا يمكن أن يلقى متنصر في السجن دون محاكمة لسنوات وغيرها الكثير من الأمثلة التي لن تكفي الجرائد لذكر تفصيلاتها.
أمريكا يمكن فيها فضح خبايا وخفايا حتى الكبير فيها، والنبش في حياته الشخصية وحياة أولاده وعائلته، ومحاسبته على استخدامه لأموال المتبرعين له في حملته الانتخابية، وما ملكت إيمانهم من نساء، ومراجعة الضرائب الخاصة بهم واكتشاف تلاعبهم فيها إن حدث، ففي كل ذلك الكل متساوون أمام القانون، مع أننا لم نسمع الأمريكان يفتخرون بأن لديهم هذه الحرية والديمقراطية والمساواة في كل نواحي الحياة لكل مواطنيها والمهاجرين إليها. هم لا يفتخرون بذلك لأنه كيف يفتخر الإنسان بحصوله على حقوقه كاملة، لذا ينتفي الافتخار. وبالرغم من كل هذا فالحرية قد تتحول إلى طريق للفساد، فهناك ما يُعرف بصراع الحريات، فالكل يصارع للتمتع بحريته كاملة. وهنا نقول إن الله يعطي الحرية للإنسان أن يعمل ما يريد بشرط ألا يعتدي على حريات الآخرين، لأن الله له قوانينه الخاصة التي يحكم بها على كل بشر، والتي من ضمنها أن كل إنسان حر، لكنه في حدود القوانين والثوابت الإلهية.
ومع كل هذه الحرية التي يتمتع بها الأمريكان من كل الأجناس والخلفيات والأديان، حتى المسلمين منهم، الذين لم يتمتعوا بالحرية في بلادهم الذين وفدوا منها مطلقًا، ولا يعرفونها أو حتى سمعوا عنها، وحتى أولئك الذين جاءوا ليستغلوا هذه الحرية الممنوحة لهم في سرقة الحكومات الأمريكية والتهرب من الضرائب، والكذب والتزوير في الأوراق الرسمية للحصول على أكبر قدر من المساعدات الحكومية التي لا يحل لهم الحصول عليها، حتى أولئك اللصوص يتمتعون بالحرية الكاملة في أمريكا، فالحرية لا يمكن أن تتجزأ، ولا يمكن أن تُطبَّق على أصحاب دين أو عقيدة أو لون أو دولة ولا تُطبَّق على الكل، فليس هناك على وجه الأرض ما يعرف بخير أمة أُخرجت للناس.
مع كل هذا فهناك أيضًا الفساد المنتشر بشدة بين مَنْ يعيشون في أمريكا وغيرها من البلاد الأوروبية، فالفساد لا علاقة له بالدولة التي يعيش فيها المرء، مع علمي بتفاوت درجات ممارسته وتحكمه في المواطنين من بلد إلى بلد. الفساد علاقته بالطبيعة الإنسانية الفاسدة التي ورثها الإنسان نتيجة عصيانه للرحمن وتصديق غواية الشيطان، ولذا فالفساد يمكن أن تفوح رائحته في المعبد أو الكنيسة أو الجامع وفي المترددين عليهم جميعًا. والحرية الممنوحة من المولى سبحانه وتعالى مقدمة لكل خلائقه، وهو يقول لكل إنسان: “قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا”، لأنك حر ومسئول عن اختيارك، ولهذا السبب فقد وصف لنا كتاب الله، الكتاب المقدس، بالتفصيل وكتب لنا عن أصل الفساد، وكيف يمكن الخلاص منه بالإيمان بالوحيد الذي لم يرث فساد الطبيعة البشرية مع أنه ظهر لنا في جسد إنسان، ورسم لنا كيف نهرب من الفساد الذي في العالم حيث نعيش جميعنا، ووعدنا بأن الخليقة كلها ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله، وبأنه سيأتي يوم، وهو قريب، حين يلبس جسدنا الفاسد عدم فساد، وهكذا سيؤهلنا تبارك اسمه لنكون معه كل حين أحرارًا من الجسد والعالم والشيطان في عدم فساد إلى أبد الآبدين. آمين.