جريدة الطريق

إن الفتى مَنْ يقول ها أنا ذا

د. ناجي يوسف

لستُ أدري لماذا عندما جلستُ أمام التلفاز لمشاهدة حفل افتتاح المتحف المصري العظيم الكبير والاستماع إلى كلمة الرئيس السيسي، لماذا أقحم نفسه على فكري وعقلي بيت الشعر الشهير القديم القائل:

”إن الفتى مَنْ يقول ها أنا ذا، ليس الفتى مَنْ يقول كان أبي“.

 بيت الشعر هذا الذي تضاربت الأقوال في مصدره، وأصله، ومَنْ هو كاتبه الأقوال، فمَنْ قائل إنه للخليفة علي بن أبي طالب، ومَنْ قائل إنه للحجاج، ومَنْ قائل إنه للشاعر أحمد شوقي، وغيرهم. لذا استهواني البحث وطلبي لمعرفة مَنْ قائله الحقيقي، فأخذتُ أبحث في مواقع الإنترنت المختلفة، وبينما أنا أواصل عملية بحثي وجدتُ عقلي يسألني سؤالًا منطقيًا، ألا وهو: ما الفرق بين ما إذا كان مؤلف بيت الشعر هذا هو الحجاج أم علي بن أبي طالب أم احمد شوقي؟ أليس المهم هو بيت الشعر نفسه بغض النظر عن مؤلفه ومصدره؟ عندها كدتُ أن أقول لنفسي: نعم هذا صحيح، ليس المهم قائله بل المهم هو بيت الشعر نفسه، والدروس المستفادة منه. أسرع عقلي بالتدخل في أفكاري وقال لي: لا، كاتب ومصدر بيت الشعر هذا أو غيره لا بد أن يكون مؤمنًا بما يقول، يعيشه كما يعبِّر عنه في أشعاره، فالشعر الحقيقي لا بد أن يكون مرتبطًا بقائله، فكم من جبان كتب شعرًا عن البطولة والشهامة، فضحك الناس عليه وعلى ما كتب لمعرفتهم بحقيقته، وكم من جاهل كتب الشعر متغنيًا بالحكمة والعلم، فقال القراء عنه: انظروا لهذا الجاهل الذي اكتفى من الحكمة والعلم بما يتغنى به قولًا وشعرًا وليس عملًا، ففقد ما كتبه التأثير الإيجابي على قارئيه وسامعيه، فالشعر ليس هو كلمات وجمل ومقاطع رصينة موزونة فحسب، كلمات يحلو للأذن سماعها، بل هو تجربة شعورية حية، تغلغلت في كيان كاتبها ومنشئها، وانطلقت فخرجت من قلبه ووجدانه صادقة معبرة عن تجربة حياتية شعورية عميقة، فهناك فرق بين أن اقرأ قصيدة الأطلال للشاعر أحمد شوقي أو أن تغنيها أم كلثوم، وبين التجربة الشعورية لأحمد شوقي نفسه والتي دفعته أن يكتب قصيدته الأطلال.

لستُ أدري ما الذي دفعني للدخول في هذه المحادثة مع عقلي وقلبي وأنا أستمع وأشاهد كل فقرات احتفال افتتاح المتحف الجديد.

وكمصري أصيل تجري دماء مصر في عروقه، فأنا أحب مصر بكل جوارحي، وكثيرًا ما أتكلم وأحكي بافتخار عن مصر، وأمجاد مصر، وحضارتها وماضيها، كما وصلت إلينا كلها من الأقدمين، أحكي ليس للأغراب فقط بل لأولادي أيضًا. والجميع يعلمون علم اليقين أن مصر بالنسبة لي خط أحمر، فأنا لا أقبل تعليقاتهم السلبية أو مزاحهم أو نكاتهم عن مصر والمصريين على اختلاف مدنهم، سواء أكانوا سكان صعيد مصر الذي تمتد أصولي العائلية منه، أم بحري الذي هاجر إليه بعض من أقاربي. أرفض أنا نكاتهم عن المصريين مهما كانت مضحكة بل وفي بعض الأحيان صحيحة أيضًا، لذا فجميع مَنْ في دائرة التعامل معي يعرفون ذلك ويحترمون هذا الأمر ويتجنبون الكلام السلبي عن مصر وأهلها، على الأقل أمامي، إلى أن حدث ذات يوم أن ذهب ابني الأصغر لحضور حفل لفنان كوميديان أمريكي ذائع الصيت وممتد الشهرة، وجاء ابني إلى البيت ليقول لي ضاحكًا: “بابا، هذا الكوميديان كان يسخر من مصر والمصريين ويقول إن المصريين لم يعملوا شيئًا في حياتهم إلا الأهرامات والمعابد القديمة والتماثيل والتحنيط لجثث الموتى منذ أكثر من 4000 عام مضت، ولم يعملوا شيئًا يُذكر منذ ذلك الوقت حتى اليوم، ومع ذلك فهم لا يزالون يفتخرون بما عمله آباؤهم في ماضيهم، دون أن يعملوا شيئًا كأبناء أولئك الآباء في حاضرهم”. سألتُ ابني: “وماذا قلت أو فعلت أنت؟” قال: “ضحكتُ مع الضاحكين لأن كلام هذا الفنان صحيح جدًا، فلو اعترضتُ أنا على كلامه حتى مع أصحابي المصريين، لسألوني: ‘قل لنا بماذا أفاد به المصريون البشرية منذ زمن الفراعنة حتى الآن؟ فأمريكا مثلًا، التي لم يزد عمرها عن 250 سنة، أضافت للإنسانية ما لا يُعد أو يُحصى من أبحاث واختراعات علمية وطبية وفضائية وسينمائية وحربية وغيرها الكثير، فأين مصر من كل هذه اليوم؟ بابا: مصر تعيش على القول ‘كان أبي’ وليس ‘ها أنا ذا'”.

شردتُ بذهني بعيدًا متفكرًا في سؤال ابني وتعليقه على حقيقة ما يحدث في مصر، حتى أفاقني هو من تفكيري العميق في الأمر، أفاقني قائلًا: “بابا، أنا آسف إن كنتُ قد ضايقتك بكلامي، أنا لم أقصد ذلك”، وبعدها ولأني لم أجيبه على كلامه لاستغراقي في تفكيري العميق حول ما يمكن أن أقوله له، قال لي هو: “بابا، أنا أتكلم إليك”، أجبته: “نعم، ماذا تريد مني أن أقوله لك الآن؟” أجابني ابني: “قل لي أنت يا بابا، بماذا أفاد المصريون البشرية منذ زمن الفراعنة حتى الآن؟” حاولتُ التهرب من سؤاله لعلمي أن المصريين لم يقدموا للبشرية شيئًا يُذكر منذ أن بنوا الأهرامات والمعابد والمقابر، قد يكونون في زمانهم الغابر قد أتقنوا علم الفلك والهندسة والطب والمعمار كما نقول نحن عنهم، لكن أين كل ذلك منهم اليوم؟ حتى بناء الأهرامات بكل تقنياتها هو أمر يختلف عليه العلماء في العالم كله، فمن قائل إن المستعبدين، المسخرين من الشعب اليهودي الذين عاشوا في مصر لمدة 430 سنة هم الذين بنوا الأهرامات لفراعنتها، فما دام قد ذُكر في التوراة أن اليهود الذين كانوا في مصر هم الذين بنوا لفرعون القديم مدينتي “فيثوم ورعمسيس” فماذا يمنع أن يكونوا هم أيضًا مَنْ بنو الأهرامات لفرعونها الأكبر خوفو؟ ومن المعاصرين والقدامى مَنْ ادعوا أن كائنات “أرض ـ سمائية” لها قدرات خارقة للطبيعة هي التي بنت الأهرامات، وغيرها من النظريات الكثير، ولكن من الواضح أن كل ما عمله المصريون على مر عصورهم بعد فترة بناء الأهرامات التي نفتخر نحن بها كمصريين هو إلقاء المحاضرات حول الإنسان المصري القديم وحضارته وإنجازاته ونسوا أو تناسوا الحديث عن الإنسان المصري المعاصر، وكأن الزمن قد توقف بمصر عند فترة الفراعنة ودخل في غيبوبة حضارية أعجزته عن مواصلة تقدمه وتطوير حضارته لتنفع المصريين اليوم. ولعله من عجائب الصدف أن أقرأ، عندما شرعتُ في كتابة مقالي هذا، ما نُشر عن محاضرات واحتفالات الجامعات المصرية بملحمة المتحف المصري الكبير، والتي أوضح فيها منظمو محاضرة ما أن الهدف من إلقاء المحاضرة هو “ترسيخ قيم الانتماء والوعي الأثري في نفوس أبنائها، انطلاقًا من مسئوليتها التنويرية والثقافية كجامعة رائدة في بناء الفكر والوجدان المصري، مؤكدًا أن المتحف الكبير يمثل رسالة خالدة من مصر إلى العالم، تعكس عمق الحضارة المصرية وقدرتها على الإبداع المتجدد عبر العصور”.

وجاء في الخبر:
” أوضح الدكتور محمد سامي عبد الصادق أن هذه المحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الفعاليات التي تطلقها الجامعة تحت عنوان: «جامعة القاهرة وملحمة المتحف المصري الكبير»، وفي إطار الحرص على دعم مشروعات الهوية الوطنية، وترسيخ قيم الانتماء والوعي الأثري في نفوس أبنائها، انطلاقًا من مسئوليتها التنويرية والثقافية كجامعة رائدة في بناء الفكر والوجدان المصري، مؤكدًا أن المتحف الكبير يمثل رسالة خالدة من مصر إلى العالم، تعكس عمق الحضارة المصرية وقدرتها على الإبداع المتجدد عبر العصور”.

والسؤال الذي لا بد من فهمه والحصول على إجابة واضحة عنه من المسئولين عن جامعة القاهرة، أو أي جامعة مصرية أخرى، هو: ما هو هذا الإبداع المتجدد على مر العصور الذي تعكسه عمق الحضارة المصرية والذي يتكلم عنه أساتذة الجامعات المصرية؟ إبداع قديم، نعم، متفقون على ذلك، أما إبداع متجدد فهذا لم أره أنا ولا مَنْ هم من جيلي، على الأقل في حياتي على الأرض، ولستُ أظن أنني سأراه حتى نهاية أيامي في هذه الحياة الدنيا، وبالتالي لا يمكن أن أشرحه لأولادي لأنه ليس بموجود على أرض الواقع.

ولا شك أن كل واحد منا يبحث في حياته او حياة عائلته أو أجداده عما هو عظيم ليفتخر ويتباهى به بين الناس، لكن المصيبة أننا نعيش على جزء من أمجاد الماضي، ولا ننظر للصورة كاملة من كل جوانبها حتى في ذلك الماضي الذي نفتخر به، فنحن نتكلم دائمًا عن الماضي الإبداعي والفني المرئي والملموس والمحسوس للإنسان المصري القديم، هذا بالطبع إن وُجِدَ على أرض الواقع، دون أن نربطه بالماضي العملي، الإنساني والنفسي والأخلاقي والذكائي المعرفي لنفس الإنسان الذي نفتخر بماضيه، وهي جوانب لا يمكن أن تنفصل جميعها عن بعضها بأي حال من الأحوال لأنها مجتمعة هي التي تكوِّن شخصية إنسان الماضي، وبالتالي سلوك الإنسان الذي نفتخر به أو بحضارة دولة بكاملها.

ولتوضيح ما ذكرته سابقًا أقول:
نعم، لقد كانت الحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة، حسب ما وصل إلينا، ونراه الآن بعيوننا لبعض أهراماتهم وتحنيطهم للموتى وحضارة في البناء والهندسة والمعمار وتسليح الجيوش ووسائل الحرب، وربما في دراسة الفلك والتنجيم والتعامل مع السحرة والمنجمين كما دوَّن لنا سفر الخروج في العهد القديم. لكن على النقيض من ذلك فقد دوَّن لنا أيضًا كتاب الكتب، الكتاب المقدس، والتوراة خاصةً، ما كانت عليه أخلاق وتصرفات وأفعال وردود أفعال الفراعنة المتعاقبين على حكم مصر في الفترة السابقة والمعاصرة لوجود شعب إسرائيل في مصر، وما بعد خروج شعب الله منها سالمين إلى نهاية حكم الفرعون الأخير عليها، والتي سأذكر منها ما تيسر والذي يتعلق بجوانب متعددة من حياة وصفات وتصرفات الفراعنة الذين كانوا حكام مصر الأقدمين، وما ارتكبوه من جرائم روحية وأخلاقية وإنسانية في حق شعوبهم وحق شعب إسرائيل وفقًا لما ذُكر في كتاب الله الوحيد، الكتاب المقدس بعهديه، والذي جعل الروح القدس على لسان نبيه إشعياء في الإصحاح التاسع عشر من سفره يصف حكماء مصر بأنهم أغبياء، وأن مشورة مشيري فرعون مشورة بهيمية، ولذلك أضلوا مصر وخدعوها، فإذا كان حكماؤهم أغبياء ومشورة مشيريهم بهيمية فكم وكم يمكن أن يكون غباء أغبيائهم ومشورة جهلائهم.

يقول تنزيل الحكيم العليم عن رؤساء مصر ومشيريهم: “إِنَّ رُؤَسَاءَ صُوعَنَ أَغْبِيَاءَ! حُكَمَاءُ مُشِيرِي فِرْعَوْنَ مَشُورَتُهُمْ بَهِيمِيَّةٌ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِفِرْعَوْنَ: أَنَا ابْنُ حُكَمَاءَ ابْنُ مُلُوكٍ قُدَمَاءَ. فَأَيْنَ هُمْ حُكَمَاؤُكَ؟ فَلْيُخْبِرُوكَ. لِيَعْرِفُوا مَاذَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْجُنُودِ عَلَى مِصْرَ. رُؤَسَاءُ صُوعَنَ صَارُوا أَغْبِيَاءَ. رُؤَسَاءُ نُوفَ انْخَدَعُوا. وَأَضَلَّ مِصْرَ وُجُوهُ أَسْبَاطِهَا. مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا رُوحَ غَيٍّ فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ”.

لقد كان أول ذكر لمصر في التوراة هو في حادثة نزول أبينا إبراهيم وزوجته ساراي إليها، وقد أوضح الوحي ما كانت عليه أخلاق الفراعنة واللفيف المحيط بهم في كلمات قليلة لكنها تدل بكل وضوح على مدى انحطاط أخلاقهم، حيث يقول الوحي المقدس: “وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ». فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدًّا. وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ، فَأُخِذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ. فَضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ”.

والسؤال هنا: كيف عرف إبراهيم أن المصريين إذا رأوا امرأة جميلة مع زوجها سيقتلونه ويأخذون امرأته بالرغم من أنه لم يسبق لإبراهيم أن نزل إلى مصر أو عاش بها قبل نزوله في تلك المرة؟ وبالطبع كان هذا قبل اختراع التلفزيون والفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي التى نعرفها اليوم والتي كان من الممكن لإبراهيم، من خلالها، أن يعرف أخلاق وطباع المصريين في ذلك الزمن الجميل، فهل كان صيت الرجال المصريين الفراعنة قد انتشر في كل العالم عن طريق مَنْ سافروا بالدواب والجمال إلى أقصى الأرض المعروفة في ذلك الزمان بأن المصريين لا يحترمون زوار أو ضيوف بلادهم حتى أنهم إذا رأوا امرأة جميلة غريبة عن مصر تنزل مع رجلها لتتغرب في أرضهم، بسبب المجاعة، يأخذونها ويقتلون زوجها؟ والحقيقة أنه لو لم يحدث حقًا ما تنبأ به خليل الله عن المصريين وما سيعملونه بامرأته لقلنا إنها أفكار لا أساس لها من الصحة وردت إلى ذهن إبراهيم بسبب الخوف من المجهول أو النزول إلى بلد غريب، لكن الحقيقة الثابتة هي أن ما خاف منه إبراهيم أتى عليه وأخذت بالفعل امرأته إلى بيت فرعون ليتزوجها. والأمر الثاني الذي يمكن أن نستخلصه من هذه القصة والتي تدل على ما كانت عليه أخلاق المصريين وفراعنتهم أن مجرد دخول امرأة واحدة جميلة إلى مصر يسمع عنها ويراها ويشتهيها ويتلصص عليها كل رجال فرعون، أهكذا كانت أرقى طبقات الشعب المصري وأغناها وأكثرها سلطة في البلاد متعطشة لرؤية امرأة جميلة لتصبح حديث الساعة بالنسبة لهم وفرعون؟ وبالطبع لا يجرؤ أحد رجال فرعون حتى على أن يحلم بأن يتزوج بها، لأن مثل هذه المرأة الجميلة لا بد أن تمر على فرعون نفسه أولًا، فإذا لم يشتهيها لتكون زوجة أو حتى أَمَة، ملك يمين له، يتركها لأتباعه وعبيده ليتزوج أحدهم بها. فهل كان رجال فرعون، ومشيروه وعبيده من التفاهة بما كان حتى يتلصصوا جميعًا لرؤية امرأة جميلة وينشغلوا بها لدرجة أنهم يذهبوا ليتكلموا عنها ويمتدحوها أمام فرعون، ثم يذهبون بأمره ليأخذوها من أخيها لتتزوج بفرعون؟ ولولا رحمة الله الذي منع فرعون من الدخول بها لوقع المحظور ولكان أبونا إبراهيم من الخاسرين.

أما زال يحدث هذا في مصر منذ زمن الفراعنة حتى اليوم، وإن لم تصدقني أنه يحدث اقرأ كتاب “اعتماد خورشيد شاهدة على انحرافات صلاح نصر”، اعتماد خورشيد والدة عازف الجيتار عمر خورشيد، وصلاح نصر رئيس المخابرات المصرية يومئذٍ الذي أجبر زوج اعتماد خورشيد على تطليقها وتزوج هو منها في وضح النهار.

ثم يتوالى إظهار جهل الفراعنة ومشيريهم ووزير داخلية فرعون، والذي ألقى الشاب البريء يوسف الصديق في السجن، دون محاكمة أو شهود عيان أو إثبات لجريمة لم يرتكبها بل لمجرد اتهام مجرم كاذب من زوجته المنحلة لشاب رفض أن ينام معها في سرير واحد احترامًا لزوجها ولإلهه تبارك اسمه.

وبغض النظر عن الخطة الإلهية والترتيبات السماوية لكي يصبح يوسف هو الرجل الثاني في مصر، وهو في سن الثلاثين، فهذه مشيئة الله الذي لا يسبر أحد غور أفكاره، ولا يمكن أن يسأله المرء عن أوامره وأفعاله، لكن من الناحية الإنسانية تُظْهِر هذه الجزئية من حياة فرعون مدى جهله بالسياسة والإدارة وتسرعه في الاختيار واتخاذ القرارات، وتحركه بالعواطف لا بالحقائق المبنية على معطيات صحيحة موثقة مهما كان مَنْ هو قائلها، فكيف يأخذ فرعون قرارًا متهورًا بأن يولي يوسف ليصبح الرجل الثاني في مصر في لحظة ودون دراسة وسؤال عنه وعن مؤهلاته واستعداده ليتولى مثل هذا المنصب الخطير في البلاد؟ فيوسف:
(أ) ليس مصريًا من الأصل بل غريب الجنس عبراني.

(ب) وهو الشاب صغير السن ذو الثلاثين ربيعًا.

(ج) وهو ليس أكثر من عبد اشتراه فوطيفار رئيس الشرط من قافلة للإسماعيليين.

(د) وهو السجين المتهم بجريمة التحرش ومحاولة الاعتداء الجنسي على زوجة سيده رئيس الشرط.

(هـ) هو مَنْ لم يسبق له أن يعمل من قبل في أي منصب حكومي، لا كوزير ولا حتى كغفير، لأي قطر من الأقطار.
(و) وهو مَنْ لا خبرة لديه في تدبير حتى ميزانية بيت وأسرة صغيرة حيث إنه لم يكن قد تزوج بعد، فكيف يمكن أن يتم تعيين مثل هذا الشاب بالمواصفات السابقة في أية أو حتى أبسط وظيفة حكومية فرعونية؟

أين حكمة ذلك الفرعون التي سمحت له بأن يجعل يوسف الرجل الثاني على عرش مصر، وفي تهور ذلك الفرعون وعدم حكمته يعطي يوسف السلطة المطلقة في مصر ويقول له: “ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «انْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ». وَخَلَعَ فِرْعَوْنُ خَاتِمَهُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ بُوصٍ، وَوَضَعَ طَوْقَ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ، وَأَرْكَبَهُ فِي مَرْكَبَتِهِ الْثَّانِيَةِ، وَنَادَوْا أَمَامَهُ «ارْكَعُوا». وَجَعَلَهُ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «أَنَا فِرْعَوْنُ. فَبِدُونِكَ لاَ يَرْفَعُ إِنْسَانٌ يَدَهُ وَلاَ رِجْلَهُ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ”.

ليس ذلك فقط بل يبدو أن فرعون قد تآمر مع يوسف ضد المصريين أنفسهم، أصحاب الأرض الأصليين، ففي البداية أخذ يوسف من المصريين خُمس ما يزرعون ويحصدون من قمح كل سنة لمدة سبعة سنين متواصلة، ولم يذكر الكتاب أن فرعون أو يوسف اشترى القمح من المصريين بل أخذه منهم بالأمر دون أن يدفع ثمنه للفلاحين الذين تعبوا في زراعته، إذ يقول الكتاب: ” وَأثْمَرَتِ الأرْضُ فِي سَبْعِ سِنِي الشَّبَعِ بِحُزَمٍ. فَجَمَعَ (يوسف) كُلَّ طَعَامِ السَّبْعِ سِنِينَ الَّتِي كَانَتْ فِي ارْضِ مِصْرَ وَجَعَلَ طَعَاما فِي الْمُدُنِ. طَعَامَ حَقْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَوَالَيْهَا جَعَلَهُ فِيهَا. وَخَزَنَ يُوسُفُ قَمْحا كَرَمْلِ الْبَحْرِ كَثِيرا جِدّا حَتَّى تَرَكَ الْعَدَدَ إذ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ. وَابْتَدَأتْ سَبْعُ سِنِي الْجُوعِ تَأتِي كَمَا قَالَ يُوسُفُ فَكَانَ جُوعٌ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ. وَأمَّا جَمِيعُ أرْضِ مِصْرَ فَكَانَ فِيهَا خُبْزٌ. وَلَمَّا جَاعَتْ جَمِيعُ ارْضِ مِصْرَ وَصَرَخَ الشَّعْبُ إلى فِرْعَوْنَ لأجْلِ الْخُبْزِ قَالَ فِرْعَوْنُ لِكُلِّ الْمِصْرِيِّينَ: «اذْهَبُوا إلى يُوسُفَ وَالَّذِي يَقُولُ لَكُمُ افْعَلُوا». وَكَانَ الْجُوعُ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأرْضِ. وَفَتَحَ يُوسُفُ جَمِيعَ مَا فِيهِ طَعَامٌ وَبَاعَ لِلْمِصْرِيِّينَ. وَاشْتَدَّ الْجُوعُ فِي أرْضِ مِصْرَ. وَجَاءَتْ كُلُّ الأرْضِ إلى مِصْرَ إلى يُوسُفَ لِتَشْتَرِيَ قَمْحا لانَّ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا فِي كُلِّ الأرْضِ”.

وما هو واضح مما دوَّنه تنزيل الحكيم العليم في الكتاب المقدس والمذكور بنصه عاليه، أن يوسف أخذ القمح من المصريين في سني الشبع وباعه لهم نفس القمح، قمحهم هم الذي أعطوه إياه، باعه لهم، ولم يكتفِ ببيع قمحهم لهم بل عندما أفلس المصريون ودفعوا كل ما لديهم من فضة ومال لشراء قمحهم مرة أخرى، أجبرهم فرعون ومساعده يوسف على بيع مواشيهم أيضًا، باعوا بقرهم وجاموسهم وأغنامهم وهي مصدر طعامهم من ألبان وزبد ولحم، بالإضافة إلى حميرهم وخيلهم وجمالهم وهي المعين لهم في التنقل والزراعة وغيرها، وهي رأس مالهم الذي كان لا بد لهم أن يتاجروا به. ولم يكتفِ الفرعون الأحمق بكل ذلك بل ترك يوسف العبراني ليشتري الناس أنفسهم، ويشتري أولادهم وبناتهم أيضًا، بعد أن اشترى بيوتهم وحقولهم، وأجبرهم أن يصيروا عبيدًا لفرعون، فاستعبد الفرعون كل المصريين، وكانوا له من الشاكرين لأنه قبل أن يشتريهم وأولادهم عبيدًا بالقمح الذي أعطوه هم له في سني الشبع، فيقول تنزيل الحكيم العليم: “وَلَمْ يَكُنْ خُبْزٌ فِي كُلِّ الأَرْضِ، لأَنَّ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا جِدًّا. فَخَوَّرَتْ أَرْضُ مِصْرَ وَأَرْضُ كَنْعَانَ مِنْ أَجْلِ الْجُوعِ. فَجَمَعَ يُوسُفُ كُلَّ الْفِضَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَفِي أَرْضِ كَنْعَانَ بِالْقَمْحِ الَّذِي اشْتَرُوا، وَجَاءَ يُوسُفُ بِالْفِضَّةِ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ. فَلَمَّا فَرَغَتِ الْفِضَّةُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَمِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ أَتَى جَمِيعُ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى يُوسُفَ قَائِلِينَ: «أَعْطِنَا خُبْزًا، فَلِمَاذَا نَمُوتُ قُدَّامَكَ؟ لأَنْ لَيْسَ فِضَّةٌ أَيْضًا». فَقَالَ يُوسُفُ: «هَاتُوا مَوَاشِيَكُمْ فَأُعْطِيَكُمْ بِمَوَاشِيكُمْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِضَّةٌ أَيْضًا». فَجَاءُوا بِمَوَاشِيهِمْ إِلَى يُوسُفَ، فَأَعْطَاهُمْ يُوسُفُ خُبْزًا بِالْخَيْلِ وَبِمَوَاشِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَبِالْحَمِيرِ. فَقَاتَهُمْ بِالْخُبْزِ تِلْكَ السَّنَةَ بَدَلَ جَمِيعِ مَوَاشِيهِمْ. وَلَمَّا تَمَّتْ تِلْكَ السَّنَةُ أَتَوْا إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ الْثَّانِيَةِ وَقَالُوا لَهُ: «لاَ نُخْفِي عَنْ سَيِّدِي أَنَّهُ إِذْ قَدْ فَرَغَتِ الْفِضَّةُ، وَمَوَاشِي الْبَهَائِمِ عِنْدَ سَيِّدِي، لَمْ يَبْقَ قُدَّامَ سَيِّدِي إِلاَّ أَجْسَادُنَا وَأَرْضُنَا. لِمَاذَا نَمُوتُ أَمَامَ عَيْنَيْكَ نَحْنُ وَأَرْضُنَا جَمِيعًا؟ اِشْتَرِنَا وَأَرْضَنَا بِالْخُبْزِ، فَنَصِيرَ نَحْنُ وَأَرْضُنَا عَبِيدًا لِفِرْعَوْنَ، وَأَعْطِ بِذَارًا لِنَحْيَا وَلاَ نَمُوتَ وَلاَ تَصِيرَ أَرْضُنَا قَفْرًا». فَاشْتَرَى يُوسُفُ كُلَّ أَرْضِ مِصْرَ لِفِرْعَوْنَ، إِذْ بَاعَ الْمِصْرِيُّونَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقْلَهُ، لأَنَّ الْجُوعَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ. فَصَارَتِ الأَرْضُ لِفِرْعَوْنَ. وَأَمَّا الشَّعْبُ فَنَقَلَهُمْ إِلَى الْمُدُنِ مِنْ أَقْصَى حَدِّ مِصْرَ إِلَى أَقْصَاهُ. إِلاَّ إِنَّ أَرْضَ الْكَهَنَةِ لَمْ يَشْتَرِهَا، إِذْ كَانَتْ لِلْكَهَنَةِ فَرِيضَةٌ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ، فَأَكَلُوا فَرِيضَتَهُمُ الَّتِي أَعْطَاهُمْ فِرْعَوْنُ، لِذلِكَ لَمْ يَبِيعُوا أَرْضَهُمْ. فَقَالَ يُوسُفُ لِلشَّعْبِ: «إِنِّي قَدِ اشْتَرَيْتُكُمُ الْيَوْمَ وَأَرْضَكُمْ لِفِرْعَوْنَ. هُوَذَا لَكُمْ بِذَارٌ فَتَزْرَعُونَ الأَرْضَ. وَيَكُونُ عِنْدَ الْغَلَّةِ أَنَّكُمْ تُعْطُونَ خُمْسًا لِفِرْعَوْنَ، وَالأَرْبَعَةُ الأَجْزَاءُ تَكُونُ لَكُمْ بِذَارًا لِلْحَقْلِ، وَطَعَامًا لَكُمْ وَلِمَنْ فِي بِيُوتِكُمْ، وَطَعَامًا لأَوْلاَدِكُمْ». فَقَالُوا: «أَحْيَيْتَنَا. لَيْتَنَا نَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْ سَيِّدِي فَنَكُونَ عَبِيدًا لِفِرْعَوْنَ». فَجَعَلَهَا يُوسُفُ فَرْضًا عَلَى أَرْضِ مِصْرَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ: لِفِرْعَوْنَ الْخُمْسُ. إِلاَّ إِنَّ أَرْضَ الْكَهَنَةِ وَحْدَهُمْ لَمْ تَصِرْ لِفِرْعَوْنَ”.

والسؤال الذي لا مفر من الإجابة عليه في هذا المقام هو: أي حكمة وأي حاكم ذلك الفرعون وأي انحطاط أخلاقي ومجتمعي للفراعنة الذين نتباهى بهم وبأننا أولادهم وأحفادهم ونحتفل اليوم بهم وبنسلهم وبأجدادهم وننفق المليارات من الدولارات في وضع جثثهم في توابيت مكيفة من زجاج ونتغنى بحكمتهم وحذاقتهم وحضارتهم في البناء والفنون؟ أية حضارة هذه التي نتغنى بها والتي تجرد المرء من آدميته فيسطو حتى على أجساد أهل بلده ويحرمهم من لقمة الخبز ومن البهائم ومن الأرض ويأخذ الناس أصحاب الأرض الحقيقيين عبيدًا للحاكم، سواء أكان ملكًا أم رئيسًا أم فرعونًا.

الأمر الآخر هو لو أن الفرعون كان يعامل جميع مواطنيه أو رعاياه بنفس المعاملة ويزن ما يتعلق بهم بنفس الموازين لكنا وصفناه بالفرعون العادل حتى ولو لم نوافق على بقية تصرفاته الحمقاء، أما أن يفضل رئيس البلاد أو الملك أو الفرعون الغرباء على أصحاب الأرض الأصليين من المصريين بسبب أصلهم العرقي أو ديانتهم أو أي شيء آخر، فهذا ذنب عظيم سيعطي عنه حسابًا في يوم الدين للمسيح يسوع تبارك اسمه ديان كل الأرض، الذي ليس لديه محاباة. فماذا قدم أهل يوسف الصديق العبرانيون لفرعون مصر؟ أو ماذا قدم يوسف نفسه لأهل مصر من خدمة وتضحية؟ إن كل ما عمله يوسف الصديق هو تفسيره حلم فرعون ورسم خطة منحازة ظالمة لفائدة الفرعون وعائلته وكهنته وضيوفه وليس للشعب المصري الفقير المسكين المغلوب على أمره، مَنْ كان ولا يزال يحتاج إلى لقمة الخبز الذي عز تواجدها يومها وأيضًا في هذه الأيام بسبب ضيق ذات اليد. كيف يقرر ذلك الفرعون الغبي ما قرره لعائلة غريبة لا يعرف عنهم شيئًا ويعرض عليهم المجيء إلى مصر ليعطيهم خيرات أرض مصر وليأكلوا دسم الأرض حتى يقول عنه الكتاب: “فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «قُلْ لإِخْوَتِكَ: افْعَلُوا هذَا: حَمِّلُوا دَوَابَّكُمْ وَانْطَلِقُوا، اذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. وَخُذُوا أَبَاكُمْ وَبُيُوتَكُمْ وَتَعَالَوْا إِلَيَّ، فَأُعْطِيَكُمْ خَيْرَاتِ أَرْضِ مِصْرَ وَتَأْكُلُوا دَسَمَ الأَرْضِ. فَأَنْتَ قَدْ أُمِرْتَ، افْعَلُوا هذَا: خُذُوا لَكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ عَجَلاَتٍ لأَوْلاَدِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَاحْمِلُوا أَبَاكُمْ وَتَعَالَوْا. وَلاَ تَحْزَنْ عُيُونُكُمْ عَلَى أَثَاثِكُمْ، لأَنَّ خَيْرَاتِ جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ لَكُمْ”. ثم قال الفرعون ليوسف “أَرْضُ مِصْرَ قُدَّامَكَ. فِي أَفْضَلِ الأَرْضِ أَسْكِنْ أَبَاكَ وَإِخْوَتَكَ، لِيَسْكُنُوا فِي أَرْضِ جَاسَانَ. وَإِنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُوجَدُ بَيْنَهُمْ ذَوُو قُدْرَةٍ، فَاجْعَلْهُمْ رُؤَسَاءَ مَوَاشٍ عَلَى الَّتِي لِي”.

والعجيب أنه بينما أسكن يوسف والفرعون أباه وإخوته العبرانيين في أفضل الأراضي المصرية يومئذٍ، أرض جاسان، فرق يوسف والفرعون شمل المواطنين المصريين الذين كانوا يسكنون بيوتهم وقراهم مع أسرهم في سلام آمنين وبعثرهم من أقصى مصر إلى أقصاها، وكأنهم هم سبب المجاعة التي لحقت بالعالم كله. أليست هذه تفرقة عنصرية مبنية على تفضيل أحد عنصري الأمة على العناصر الباقية؟

ليس ذلك فقط بل سرعان ما ذهب يعقوب ثم يوسف والفرعون المعاصر لهما، ذهب كل إلى ربه، ليعطي حسابًا عما فعل بالجسد، خيرًا كان أم شرًا، وتولى عرش مصر فرعون آخر متهور أيضًا وجاهل بعلوم الإدارة وحل مشاكل الدولة المصرية بطريقة دبلوماسية صحيحة لخير شعبه المصري والغرباء الذين سمح لهم جده الفرعون المعاصر لحياة يوسف الصديق على الأرض بالمجيء إلى مصر والسكن في أفضل بقاع مصر، أرض جاسان، ذلك الفرعون الجديد الذي لم يكن يعرف يوسف وما عمله يوسف لإنقاذ مصر والعالم أجمع أثناء أكبر مجاعة عامة عرفها التاريخ، والذي كان السبب في أن يرث آباء ذلك الفرعون وأجداده كل أرض مصر وحقولها وأناسها وخمس ما يحصده المصريون من محاصيل زراعية لأن جده بتخطيط من يوسف قد تملك كل ذلك. ولم يعرف هذا الفرعون مَنْ هو إله إسرائيل الذي كان مع يوسف طيلة حياته فكان رجلًا ناجحًا، لكن كل ما كان يعرفه ويراه ذلك الفرعون أن بني إسرائيل قد كثروا جدًا في مصر، فخاف منهم، وتوجس من ناحيتهم، وصوَّر له الشيطان أن هذا الشعب العبراني لا بد أن يثور عليه يومًا على وضعه في مصر وينتقم منه ومن المصريين وينضم لأعدائهم إن حدثت حرب ضدهم، فقرر بينه وبين نفسه وبين مشيريه من كانت مشوراتهم وفقًا للنص الكتابي التوراتي بهيمية، أي كما لو كانت تشير البهائم التي قد تكون حول أي فرعون أو ملك أو رئيس عليه أو على مَنْ هم في السلطة في مصر، حيث وجد هذا الفرعون ومشيريه “البهائم” أن هذا الشعب، الذي يمثل الأقلية في مصر، بالمقارنة للشعب المصري كله، هذا الشعب المتغرب في مصر هو خطر كبير على أمنها وأمانها بالرغم من استعباد المصريين لهم، والتحكم في حياتهم، وعباداتهم ودور عباداتهم، ومصائرهم وأولادهم وبناتهم وأعمالهم ودخولهم المادية، وعدم السماح لهم بالتواجد في المراكز الحساسة القيادية في مصر، واضطهادهم وإسكات أصواتهم وخطف بناتهم أينما وجدوا، ولذا قرر هذا الفرعون، بمباركة لفيف مشيريه أصحاب المشورة البهيمية المحيطين به أن يحل مشكلة وجود هذا الشعب في مصر لكن بأسوأ ما تكون الحلول، لذا قال الكتاب: “ثُمَّ قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ. فَقَالَ لِشَعْبِهِ: «هُوَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا. هَلُمَّ نَحْتَالُ لَهُمْ لِئَلاَّ يَنْمُوا، فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ». فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ بِأَثْقَالِهِمْ، فَبَنَوْا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَتَيْ مَخَازِنَ: فِيثُومَ، وَرَعَمْسِيسَ. وَلكِنْ بِحَسْبِمَا أَذَلُّوهُمْ هكَذَا نَمَوْا وَامْتَدُّوا. فَاخْتَشَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَاسْتَعْبَدَ الْمِصْرِيُّونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ، وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَل فِي الْحَقْلِ. كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ عُنْفًا. وَكَلَّمَ مَلِكُ مِصْرَ قَابِلَتَيِ الْعِبْرَانِيَّاتِ اللَّتَيْنِ اسْمُ إِحْدَاهُمَا شِفْرَةُ وَاسْمُ الأُخْرَى فُوعَةُ، وَقَالَ: «حِينَمَا تُوَلِّدَانِ الْعِبْرَانِيَّاتِ وَتَنْظُرَانِهِنَّ عَلَى الْكَرَاسِيِّ، إِنْ كَانَ ابْنًا فَاقْتُلاَهُ، وَإِنْ كَانَ بِنْتًا فَتَحْيَا». وَلكِنَّ الْقَابِلَتَيْنِ خَافَتَا اللهَ وَلَمْ تَفْعَلاَ كَمَا كَلَّمَهُمَا مَلِكُ مِصْرَ، بَلِ اسْتَحْيَتَا الأَوْلاَدَ. فَدَعَا مَلِكُ مِصْرَ الْقَابِلَتَيْنِ وَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا فَعَلْتُمَا هذَا الأَمْرَ وَاسْتَحْيَيْتُمَا الأَوْلاَدَ؟» فَقَالَتِ الْقَابِلَتَانِ لِفِرْعَوْنَ: «إِنَّ النِّسَاءَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لَسْنَ كَالْمِصْرِيَّاتِ، فَإِنَّهُنَّ قَوِيَّاتٌ يَلِدْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُنَّ الْقَابِلَةُ». فَأَحْسَنَ اللهُ إِلَى الْقَابِلَتَيْنِ، وَنَمَا الشَّعْبُ وَكَثُرَ جِدًّا. وَكَانَ إِذْ خَافَتِ الْقَابِلَتَانِ اللهَ أَنَّهُ صَنَعَ لَهُمَا بُيُوتًا. ثُمَّ أَمَرَ فِرْعَوْنُ جَمِيعَ شَعْبِهِ قَائِلًا: «كُلُّ ابْنٍ يُولَدُ تَطْرَحُونَهُ فِي النَّهْرِ، لكِنَّ كُلَّ بِنْتٍ تَسْتَحْيُونَهَا”.

ولا شك أن صفات وأفعال الفرعون التي سأشير إليها بالحروف أ، ب، ج، إلى آخره، لها دلالات سياسية ومجتمعية وذهنية قوية لدى فرعون وتدل على شخصيته وشخصية المحيطين به، والتي أقل ما يقال عنها إنها شخصيات غبية لا علم لها ولا دين ولا أدب ولا أخلاق ولا حكمة ولا ذكاء، إلى آخره، وهذه الدلالات هي:

(أ) “ثُمَّ قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ”. هذه الآية تدل وتؤكد أن الفرعون كان رجلًا جاهلًا بأبسط دقائق تاريخ شعبه وأمته، الأمر الذي لا بد لأي حاكم أو ملك أو فرعون لأي بلد أن يعرفه ويدرسه ليعرف كيف يقود شعبه على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم قيادة صحيحة، لكن هذا الفرعون لم يكن يعرف مَنْ هو يوسف، ولم يكلف نفسه عناء معرفة من أين أتى يوسف وما هي قصته، وما هي الظروف التي دفعت هذا الشعب غريب الجنس عن المصريين، شعب إسرائيل، والمختلف عنهم في لغته ودينه واهتماماته وعلاقاته بعضهم ببعض، أن يأتي إلى مصر، ولماذا مصر بالذات، ولماذا استوطنوا فيها بعد وفاة أبيهم يعقوب وأخيهم يوسف، ولماذا تجمعوا في أرض جاسان بالذات، وهي أخصب وأعظم منطقة في مصر يومئذٍ، وماذا كانت الدوافع أو الأسباب التي دفعت الفرعون المعاصر لمجيء هذا الشعب إلى مصر لتمكينهم من الأرض وخيرات مصر مع أنه، في نفس الوقت، حَرَمَ المصريين، أصحاب الأرض الأصليين، من كل ذلك، فأجاعهم واستعبدهم وتركهم ليوسف الغريب غير المصري ليبيع ويشتري فيهم ويفرقهم في كل أرض مصر، أسئلة كثيرة كان الفرعون يجهلها ولم يكلف نفسه عناء معرفة الإجابة على أي منها كما ذكرت سابقًا.

(ب) “فَقَالَ (الفرعون) لِشَعْبِهِ: «هُوَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا”. وهذه الكذبة من فرعون تدل على أن هذا الفرعون هو ليس أحمقًا فحسب بل هو كاذب أيضًا، يكذب على شعبه ويخيفهم من شعب الله، ويستخدم نظرية المؤامرة، وهذه النظرية تقول إن الحاكم ينبغي أن يخيف شعبه من شخص أو جماعة أو شيء قد يكون صحيحًا أو كاذبًا، كالجماعات المتطرفة، أو أصحاب قومية أخرى كاليهود أو الأمريكان أو الإخوان المسلمين ليسيطر على المساكين والغلابة في شعبه وكأنه يحميهم ويدافع عنهم ضد المتطرفين، ويدعى أن بني إسرائيل شعب أكثر عددًا من المصريين، مع أنه يرفض أن يجري تعداد لهم، والإعلان عن حقيقة عددهم كأقلية في مصر، وهو يستغل القلة القليلة التي لديها المال منهم، كعائلة رجل أعمال مصري واحد، أو وزير واحد في الحكومة ويدلل بذلك على أنهم ليسوا مضطهدين أو مذلين بل هم يعيشون كأقلية عرقية أو دينية في أزهى عصورهم.

ثم يتهمهم هذا الفرعون الشرير بالخيانة للبلد الذي ولدوا فيه جميعًا، حيث إن أجدادهم وآباءهم عاشوا في مصر لمدة ما يزيد عن أربعة قرون، ويتهمهم بأنهم يستقوون بالدول الخارجية، وأنهم خونة سوف ينضمون لأعدائهم ويحاربون المصريين إذا هاجم الأعداء مصر، والنتيجة أنهم سيصعدون من مصر، لذا قال هذا الفرعون لشعبه: “لِئَلاَّ يَنْمُوا، فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ”. وهنا يبدو حمق الفرعون وكذبه بأوضح الصور، فماذا كان حقًا يريد الفرعون من شعب الله؟ هل كان يريدهم أن يرحلوا لبلادهم ويتركوا له مصر بما فيها؟ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تتركهم يرحلون؟ أو لماذا لا تطردهم من مصر وتستمتع بها أنت ومَنْ يحيطون بك من المصريين؟ أم كان يريدهم أن يبقوا في مصر ويساهموا في اقتصادها وخيرها ورفاهيتها بشرط أن يظلوا في حالة العبودية والذل والفقر والاحتياج وشكر الحاكم والدعاء له بطول العمر؟ يبدو أن ذلك الفرعون الغبي لم يكن يريد أن يطلق الشعب ليغادروا مصر ولا أن يتركهم وشأنهم ليعيشوا في سلام بها، فقط كان يريد أن يبقيهم في حالة الأسر والذل التي كانوا يعيشون بها.

(ج) “هَلُمَّ نَحْتَالُ لَهُمْ”. وهذه العبارة تدل وتبين نوع هذا الفرعون وشعبه بأنهم من المحتالين، المخادعين، المفترين، وأيضًا من الجبناء الذين لا يستطيعون أن يواجهوا الناس في وضح النهار كرجال وجهًا لوجه، بالحجة والمنطق والقانون والعدل والمساواة، بل يضطهدون الناس دون سبب سوى الغيرة والحسد والكراهية لشعب الله، ثم بسبب الانحلال الأخلاقي الذي دب في حياة فرعون وشعبه يعلنون صراحة أنهم سيحتالون على شعب الله، دون رادع أو وازع. ودعني أسألك أنت أيها الفرعون الشرير: لماذا تحتال على الأقلية من شعب أو طائفة أو جماعة من الناس تعيش في بلادك؟ ألا تستطيع، حسب مفهومك والمنطق البشري الذي تحكم به البلاد، أن تواجههم بكل حزم وشراسة إن عملوا ما يخالف قوانين بلادك إن أردت؟ فمَنْ يستطيع في الأرض أن يمنعك؟ هل كان دين التوحيد الذي نؤكد نحن المصريين هذه الأيام على أنك أنت أيها الفرعون الشرير وشعبك في القديم، كنت تعتنقه وتؤمن وتنادي به يومئذٍ، كالفرعون في القديم، يسمح لك أن تضطهد الناس دون سبب؟ وهل كان يسمح لك أن تظهر غير ما تبطن؟ أم أنك كنت تطبق القول الشرير “هذه نقرة وهذه نقرة، أم الضرورات يبحن المحظورات؟”

(د)” فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ”. ألا تدل هذه الآية على أن الاضطهاد الواقع على شعب الله هو اضطهاد ممنهج ومدروس ومحسوب ومتفق عليه بين حكومة الفرعون وموظفيه الذين أقامهم في وظائفهم وأعطاهم فرعون كل الصلاحيات الآثمة لاضطهاد وتسخير شعب مسالم أعزل متغرب في بلاده، ظنًا منه أنه لا إله لهذا الشعب يمكنه أن يدافع عنهم ويرفع عنهم ظلم مسخريهم بسبب تأنيه على الفرعون الأحمق وشعبه المفترين وقبل أن يبدأ سبحانه في إنزال ضرباته عليه وعلى بيته وشعبه.

لا أدري لماذا تذكرتُ وأنا أكتب هذه الجزئية في مقالي هذا بعض ما عمله بنا نحن المسيحيين، شعب الله في مصر اليوم، فراعنة ثورة يوليو 1952، الذين قاموا بالثورة وأطلقوا على أنفسهم مسمى “الضباط الأحرار”، ما عملوه بنا وفينا من تمييز ديني وعنصري واضطهاد ممنهج ومدروس أيضًا. تذكرتُ أبي وقد عاد إلى البيت وسألته أمي: “ماذا كان من أمر قبول أختي الكبرى ‘نعمة‘ في معهد المعلمات بالسويس؟” كانت أختي هي الخامسة في ترتيب الطالبات المتفوقات في الشهادة الإعدادية على مدينة السويس، لذا كانت أمي وأبي على يقين من قبولها كطالبة في معهد المعلمات بالسويس، والذي كانت أختي قد قامت بتقديم أوراقها له، حيث إنه لم تكن لدينا يومها أية كليات بالسويس يمكن أن تلتحق بها أختي إذا ما تخرجت من مدرسة ثانوية عامة، فلم يكن أبي يومها يوافق على تغربها وحيدة في أي مدينة أخرى بعيدًا عن أسرتنا، لذا فلقد كان لزامًا عليها أن تلتحق بمعهد المعلمات بالسويس والذي كان الاختيار الوحيد أمامها. كانت إجابة والدي على سؤال والدتي وكأنها قد حُفِرَت برأس صلب من الألماس على صفحات كتاب ذاكرتي منذ ستين عامًا مضت، أجابها والدي بصوت أسيف منخفض لم أسمعه يومًا يتكلم به كما سمعته وقتها وقال لوالدتي: “قال لي المسئولون في مديرية التربية والتعليم أن “نعمة” لم ولن تُقبل في معهد المعلمات بالسويس”. سألته والدتي: “لماذا، هل قالوا لك السبب، فابنتنا متفوقة في الدراسة وهي الخامسة على مدينة السويس فلماذا لا يمكن قبولها؟” رد أبي بكل حزن: “قال لي المسئولون إن المعهد لا يقبل إلا خمسة في المائة فقط من المسيحيين من بين الطالبات المتقدمات للحاق به، و‘نهم أخذوا نسبة الـخمسة في المائة من المسيحيات وابنتنا “نعمة” لم يصبها الاختيار”. قالت أمي لأبي: “وهل صدقتهم أنت فيما قالوا؟ كيف نقبل نحن الخضوع لهذه الأكاذيب؟ وابنتنا هي الخامسة على السنة الدراسية كلها، فلو كان كلام المسئولين عن قبول الفتاة في المعهد صحيحًا لكانت نعمة أول مَنْ يجب عليهم أن يقبلوها كطالبة بالمعهد خاصةً وأن الأربعة الأوائل الذين يسبقون “نعمة” في ترتيب التفوق كلهم مسلمون، وبالتالي “نعمة” هي المسيحية الأولى على الفتيات المسيحيات التي لا مفر من اختيارها”. رد أبي: “هذا ما حدث”، وبعدها بدأ أبي رحلة عذاب واضطهاد وصراع ليجد واسطة للمسئولين عن معهد معلمات السويس ليحتمي وراءهم ويعيد تقديم أوراق أختي للمعهد مستغلًا نفوذهم.

(هـ)- “فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ (لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ) بِأثْقَالِهِمْ فَبَنُوا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَتَيْ مَخَازِنَ: فِيثُومَ وَرَعَمْسِيسَ”. وهنا يذكر الكتاب بكل وضوح أن رؤساء التسخير الذين وضعهم الفرعون وبطانته على العبرانيين لم يكونوا ليساعدوهم على إتمام مهمتهم في البناء وصناعة الطوب اللبن، ولا لمجرد الإشراف عليهم وهم يعملون وحل أية مشكلة قد تعترضهم وهم يتممون خدمة تسخيرهم التي وضعوها عليهم بل، كما ذكر الكتاب هنا بكل صراحة ووضوح، أنهم وضعوا رؤساء التسخير على العبرانيين العاملين المُسَخَرين لبناء مدن فرعون “لكي يذلوهم”، عالمين أن أقصى ما لا يمكن أن يحتمله الإنسان الحر في حياته على الأرض هو الذل من أهله أو أصدقائه، فكم وكم لو كان الذل الواقع عليه من أعدائه دون ارتكاب أي خطأ من ناحيته. إن الواجب الأول لأي رئيس أو حاكم أو ملك هو أن يرفع الذل عن شعبه أو رعاياه والناس جميعًا حتى لو لم يكونوا من شعبه ما داموا يعيشون على أرض البلد الذي يحكمه، وأن يقسط بين الناس بالعدل، ولا يحكم عن الهوى، بل بما أنزل الرحمن الرحيم، أما أن يحدث الذل من القادة أو المسئولين أو رئيس البلاد، فهذا ما لا طاقة للعباد على تحمله مهما كانت قوة وصلابة شخصياتهم وإيماناتهم. وكتطبيق على ما أقول فأن يُظلم الإنسان من أخيه الإنسان فهذه جريمة لكنها واردة الحدوث، أما أن يُظلم أطفال مسيحيون من قاضي يمثل العدالة في مصر ويحكم عليهم بخمس سنوات سجن لأنهم عبَّروا عن رأيهم فيما كانت داعش تعمله من قتل وسفك للدماء ثم الصلاة لمالك يوم الدين، فهذا غير مقبول وهي لجريمة سيعاقبه عليها المولى يوم الدين.

(و) ” فَاسْتَعْبَدَ الْمِصْرِيُّونَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَلٍ فِي الْحَقْلِ”. إن التعامل مع المواطنين أو الرعايا الغرباء، الأحرار، غير العبيد، على أنهم عبيد فهذا مما لا شك فيه مرفوض من رب السماء ومرفوض حتى من بني آدم قساة القلوب الذين على الأرض، فكم وكم لو كان هؤلاء العبيد قد استُعبدوا بالقوة وبدون وجه حق، لذا أنزل القدير تبارك اسمه الوصية للأسياد الذين اشتروا وامتلكوا العبيد بالمال الذي دفعوه فيهم لامتلاكهم، حتى أولئك يقول لهم تنزيل الحكيم العليم: “أيها السادة، قدموا للعبيد العدل والمساواة، عالمين أن لكم انتم أيضًا سيدًا في السماوات”.

(ز) “كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ عُنْفًا”. وهنا لا بد من الإجابة على سؤال هام وهو: لماذا استخدم الفرعون والمصريون العنف مع شعب الله ليعملوا ما وضعوه عليهم من أعمال؟ أما كان هذا الشعب شعبًا متغربًا بعيدًا عن بلاده وأعزلً ومستعبدًا ومذلًا في مصر، إذا فما هو المبرر لاستخدام الفرعون والمصريين للعنف مع الشعب لإتمام عمله؟ هل لإلهائهم عن المطالبة بحقوقهم أو حتى المطالبة بقسط من الراحة حتى يستطيعوا أن يواصلوا خدمتهم وعبوديتهم للمصريين؟ لا شك أنه من الواضح أن الرچيم عدو النفوس ما زال يستخدم نفس التكتيك الشيطاني مع الغلابة والمهمشين في الأرض فيدفع حكوماتهم لتجبرهم وتسخرهم بالعنف وترعبهم بزائر الليل والفجر حتى يتمموا ما في عقول قادتهم.

(ح) “وَكَلَّمَ مَلِكُ مِصْرَ قَابِلَتَيِ الْعِبْرَانِيَّاتِ اللَّتَيْنِ اسْمُ إِحْدَاهُمَا شِفْرَةُ وَاسْمُ الأُخْرَى فُوعَةُ، وَقَالَ: «حِينَمَا تُوَلِّدَانِ الْعِبْرَانِيَّاتِ وَتَنْظُرَانِهِنَّ عَلَى الْكَرَاسِيِّ، إِنْ كَانَ ابْنًا فَاقْتُلاَهُ، وَإِنْ كَانَ بِنْتًا فَتَحْيَا»”. وهنا الفرعون نفسه الذي من واجبه إنصاف المظلوم وإعدام القاتل إن وُجِدَ هو نفسه مَنْ يحرض فصيلًا من الناس ضد فصيل آخر في مملكته ليقتلوا ويدمروا من يخالفونهم في الانتماء السياسي أو في الدين ويقتلوا حتى أطفالهم. لقد قرر ذلك الفرعون الشرير أن يقتل الأولاد وقت ولادتهم ويستبقي البنات أحياء، وذلك لكي يضعف هذا الجنس العبراني وليصبح شعب الله في وقت لاحق من الأوقات مكونًا من غالبية عظمى من نساء وبنات لا حول لهم ولا قوة فيسهل له إذلالهم واستعبادهم وليفعل بهن هو ورجاله ما يشاءون وفي نفس الوقت يضمن عدم انضمام رجالهم إلى أعداء مصر أن نشبت حرب بينهم.

(ط) ” فَدَعَا مَلِكُ مِصْرَ الْقَابِلَتَيْنِ وَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا فَعَلْتُمَا هذَا الأَمْرَ وَاسْتَحْيَيْتُمَا الأَوْلاَدَ؟»”. وهنا نرى تفاهة ووضاعة هذا الفرعون الأحمق الذي لم يتورع بأن يستجوب بنفسه الشرفاء والأمناء في مملكته الذين يخافون الله ويرفضون تنفيذ خططه الشريرة لقتل الأطفال الذكور من شعب الله، ولقد دلت إجابة القابلتين لسؤال الفرعون لهما وهو “لمَاذَا فَعَلْتُمَا هَذَا الأمْرَ وَاسْتَحْيَيْتُمَا الأوْلادَ؟” على القدر الكبير جدًا من الغباء الإنساني والإداري لهذا الفرعون، “فَقَالَتِ الْقَابِلَتَانِ لِفِرْعَوْنَ: «إِنَّ النِّسَاءَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لَسْنَ كَالْمِصْرِيَّاتِ، فَإِنَّهُنَّ قَوِيَّاتٌ يَلِدْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُنَّ الْقَابِلَةُ»”.. فهل هذه إجابة يمكن أن تكون مقنعة حتى لأغبى خلق الله على الأرض حتى يقبلها الفرعون ويبحث عن طريقة أخرى لقتل الأطفال، والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه أن القدير استغل غباء الفرعون وجعله يقبل تلك الإجابة من القابلتين اللتين كانتا أحكم وأشجع من الفرعون نفسه ويطلقهما إلى حال سبيلهما، فالسيدتان الفاضلتان الخائفتان لإلههما لا يخفان من الفرعون ورجاله وغطرسته وشره، وهما أحكم من فرعون ورجاله، وهما يعلمان أن المولى المتسلط في مملكة الناس، هو بذاته سبحانه في صفهما، وهو قادر على إنقاذهما من كل مكايد إبليس الشرير.

(ك) “ثُمَّ أَمَرَ فِرْعَوْنُ جَمِيعَ شَعْبِهِ قَائِلًا: «كُلُّ ابْنٍ يُولَدُ تَطْرَحُونَهُ فِي النَّهْرِ، لكِنَّ كُلَّ بِنْتٍ تَسْتَحْيُونَهَا”. ظل الفرعون في عناده وكبريائه وتحديه لخالق الأطفال وأعطى أمره للمصريين جميعًا بطرح كل ابن يولد في النهر، فحوَّل بذلك الفرعون هبة النيل، والذي هو رمز الحياة والخير و الارتواء، إلى أداة للقتل والعنف وسفك للدماء. وفي رأيي الشخصي ما زالت لعنة قتل الأطفال بواسطة مياه النيل وستظل سارية المفعول، ويومًا ما سيحصد المصريون نتيجة حماقة ذلك الفرعون وسيجري القدير عجائبه ضد نيل مصر، فقضايا القتل ومخالفة أوامر المولى تبارك اسمه لا تسقط بالتقادم مهما مر عليها من آلاف السنين، لكنها تنمحي وتسقط بالغفران والغفران وحده، والغفران لا يأتي إلا من رب العباد والسماء والأرض وكل ما عليها من أنهار، ورب السماء والأرض سبحانه لا يمكن أن يغفر ذنب إنسان أو فرعون أو حكومة بكاملها دون اعترافهم بالذنب والإقرار بالخطأ والخطية وطلب الغفران من القدير غفار الذنوب والصافح عن الإثم. ولذا أقترح على حكومتنا أن يذهب مندوبون عنها مع مجموعة من رجال الله المؤمنين المسيحيين الذين يعرفون كيف يستخدمون سلطانهم المعطى لهم من الله إلى النيل بمدينة الأقصر ويقيموا صلاة خاصة للإله الغفار ويطلبوا منه العفو والصفح والغفران لما ارتكبه آباؤنا الفراعنة من إعدام أطفال شعب الله بواسطة مياه النيل.

أبعد كل هذا الذي كتبته عاليه والذي ما زال الكثير والكثير والكثير منه في جعبتي والذي لا مجال لنشره كله حتى في عدة مقالات وليس في مقال واحد، أبعد كل ذلك ما زال المصريون يتكلمون عن حكمة الفراعنة، وعلمهم، وتوحيدهم وإيمانهم بالحياة الآخرة بعد الموت ويمدحونهم ويمجدونهم ويقيمون لهم المتاحف ليضعوا فيها مَنْ عاثوا في الأرض فسادًا وتعاملوا بالسحر والشعوذة والمنجمين؟ أيمدحون ويمجدون مَنْ عصى ربه ورفض أن يطلق شعبه أحرارًا كما خلقهم المولى تبارك اسمه؟ أيمجدون الفرعون الأحمق الذي بعد أن فقد ابنه البكر وبكر كل إنسان مصري آخر وحتى بكر البهائم، وذلك بسبب انتقام المولى لشعبه منه ومن شعبه، استمر في كبريائه وخرج وراء شعب الله ليعيده لحياة العبودية مرة أخرى وعبر وراء شعب الله على اليابسة في البحر الأحمر حتى أغلق عليه المولى تبارك اسمه اليم فمات هو وأفضل جنوده المراكبية؟ أمثل هذا وأمثاله يكرمون ونحتفل بهم ونتشرف بأن ندعوهم أجدادنا؟ أم كان من المفروض علينا أن نتنكر لهم ولأفعالهم ونعتذر للعالم أجمع على جهلهم وعنادهم وكبريائهم ونعتذر للشعب اليهودي اليوم على ما عملناه كمصريين بآبائهم وأجدادهم؟ وإن لم نفعل سيظل النيل تحت اللعنة، وسيظل المصريون وأجدادهم تحت اللعنة إلى أن يتوبوا جميعًا. اللهم أعط الحكمة لشعبنا وقادتنا حتى لا نكرر أفعال الحمقى من أسلافنا، اللهم خلصنا من كل مشير مشورته بهيمية ولا زال يتحكم في مصائرنا وبلادنا، اللهم وحد ولم شملنا كشعبك المختار منك يا إلهنا، اللهم ارجع لمصر ولحكامها ومشيريها حكمتك ومشورتك للهداية في طريقنا، اللهم اسمعنا عندما ندعوك مع الشكر لترحمنا وتخلصنا من أعدائنا، وتعفو عنا وتهبنا خيرك وتسدد خطانا، فأنت إلهنا وربنا.
اللهم إني قد أبلغت، اللهم فاشهد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى