“باسيليوس السكندري” في منتصف القرن الثاني أول من علم بإلقاء الشبه
بادلة منطقية الإمام فخر الدين الرازي يفند قضية الشبه
ما هو حكم العقل والمنطق في روايات إلقاء الشبه المتعددة المتضاربة؟
يقول “المستشار منصور حسين”: “بدأ للوهلة الأولى أن كلا من الصورتين المسيحية والإسلامية عكس الأخرى، إلاَّ أن الواقع غير ذلك تمامًا، فالصورتان تتفقان على واقعة التآمر على المسيح، بل وأيضًا على واقعة الصلب نفسها، وكل ما تختلفان فيه هو تحديد شخص المصلوب، فبينما يؤمن المسيحيون بأنه كان المسيح نفسه، يؤمن المسلمون بأن المسيح لم يُصلَب، وإنما توفاه اللَّه ورفعه إليه، وصُلِب آخر بدلًا منه على أنه هو المسيح نفسه.. وذهب مفسرون إلى أن هذا الآخر كان يهوذا الإسخريوطي، وفيما عدا الخلاف حول حقيقة شخص المصلوب فإن خلافًا آخر لا يثور بين الصورة الإسلامية وبين ما ورد في الأناجيل من تفاصيل” (دعوة الحق أو الحقيقة بين المسيحية والإسلام ص29).
ويرى “المستشار منصور حسين” أن لحظة إلقاء الشبه هيَ لحظة لقاء يهوذا بيسوع فيقول: “لا مجال طوال هذه الفترة السابقة على صلبه لأن يكون قد رُفِع وصًلِب غيره، وبذلك فأنه لا تُوجد في كل هذه التفاصيل من لحظة مناسبة وممكنة ومتصوَّرة لتخليص المسيح برفعه وصلب آخر بدلًا منه، إلاَّ لحظة محاولة القبض على المسيح بوصول يهوذا الإسخريوطي ومن معه إلى المسيح، ففي هذه اللحظة يتوفى اللَّه المسيح ويرفعه إليه، بينما يُقبَض على يهوذا الإسخريوطي في نفسن الوقت ويُحاكم ويُصلَب على أنه المسيح نفسه” (المرجع السابق ص30).
وفسَّر المستشار منصور حسين بعض ما جاء في المزامير مما يخدم نظرية إلقاء شبه المسيح على يهوذا (مز 2: 4، 5، 7: 14، 15، 9: 13، 16، 18: 16 – 20، 21: 5، 11، 22: 6، 27: 5، 34: 20، 41: 1، 2، 57: 6) وتخيل أن يهوذا عندما عاش معجزة تخليص المسيح، تاب وآثر الصمت، وقَبِلَ الصليب (دعوة الحق أو الحقيقة بين المسيحية والإسلام ص46 – 92).
ويقول “الدكتور أحمد شلبي”: “ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فأنه عند تقبيل الخائن للمسيح ألقى اللَّه على الخائن شبَه عيسى وملامحه تمامًا، فأصبح الدليل هو المدلول عليه، وأصبح الذي قبَّل يحمل جميع ملامح الذي قُبّل، وتقدم جند الرومان فقبضوا على الخائن وأُرتج عليه، أو أسكته اللَّه فلم يتكلم حتى نُفّذ فيه حكم الصلب (انظر تفسير البيضاوي جـ 1 ص64، 104، وإنجيل برنابا بالأصحاح 112، 113، 115)” (المسيحية ص54 – 69).
في هذا المقال نناقش هذه الأسئلة:
هل نظرية إلقاء شَبَه المسيح على آخر إستحدثها القرآن؟
من الذي وقع عليه شبه المسيح فصُلب؟
ما هو حكم الحق والمنطق في روايات إلقاء الشبه المتعددة المتضاربة؟
ما هو التفسير الصحيح لـ “شُبّه لهم”؟
هل نظرية إلقاء شَبَه المسيح على آخر إستحدثها القرآن..؟
نظرية إلقاء الشبه قال بها البعض قبل ظهور الإسلام فمثلًا:
1- كتب “أوفيد” Ovid قصيدته “Festi”، وقال أن الإلهة “فيستا” Vesta عندما تعرَّض “يوليوس قيصر” للاغتيال، رفعته قبل إغتياله إلى معبد جوبتر في السماء، أما الذي طُعِن فهو “خيال يوليوس”.
2- قال “باسيليوس السكندري” في منتصف القرن الثاني أن السيد المسيح ظهر على الأرض وأجرى المعجزات، ووقع شبهه على سمعان القيرواني الذي صُلِب بدلًا منه. أما هو فقد غيَّر شكله إلى شكل سيمون، وأعطى شكله لسمعان القيرواني، وصعد يسوع إلى الذي أرسله، وكان يسخر منهم لأنهم عجزوا عن الامساك به، لأنه كان غير منظور منهم (القديس أيرينيؤس – ضد الهرطقات – الكتاب الأول 24: 4 – ترجمة د. نصحي عبد الشهيد ص108).
3- إدعى “الأبيونيون” أن العذراء مريم ولدت “يسوع” الإنسان، وعند عماده نزل عليه “المسيح” فصار هو “يسوع المسيح”. وعند الصليب ترك “المسيح” “يسوع”، ولم يشأ اللَّه أن يترك يسوع للموت فرفعه إلى السماء، وألقى بشبهه على إنسان آخر، وإنتشرت هذه البدعة في بلاد العرب، وكان “ورقة بن نوفل” قس مكة أبيونيًا وكان محمد قريب منه. وقال البخاري أنه عندما مات ورقة بن نوفل فتر الوحي عن الرسول.
4- جاء في كتاب “أعمال يوحنا” وهو من كتب أبوكريفا الغنوسية أن “يسوع” عندما أُسلم للصليب، مضى “يوحنا” إلى كهف يبكي، وإذ بيسوع يتراءى له وقال له: “هناك في الأسفل أنا مصلوب، وخاصرتي منقوبة بالرمح، وأتجرَّع الخل والمرار ولكن لم أعانِ بالفعل أيًّا من هذه الأمور وهآنذا معك فاستمع لما أقول..” (فراس السواح – الوجه الآخر للمسيح ص73، 74).
من الذي وقع عليه شبه المسيح فصُلِب..؟
جاء في القرآن: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ” (النساء 157).. فمن هو الذي وقع عليه شبه المسيح وصُلب..؟ هناك آراء عديدة مختلفة ومتضاربة، فقال “فخر الدين الرازي”: “اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضوع وذكروا وجوهًا.. وهذه الوجوه متعارضة متدافعة واللَّه أعلم بحقائق الأمور” (تفسير الرازي جـ3 ص35) (الشماس يسى منصور – الصليب في جميع الأديان ص85).
ونذكر هنا سبعة آراء من تلك الآراء المتعارضة المتضاربة:
1- وقع الشبه على سبعة عشر من الحواريين: عندما أحاط اليهود بعيسى والحواريين أُلقي شبه عيسى على الجميع، فقال اليهود: “سحرتمونا، لتبرزن عيسى أو نقتلكم جميعًا”، فقال عيسى لأصحابه: “من يشتري منكم اليوم نفسه بالجنة. فقال واحد منهم: أنا، فأخذوه اليهود وصلبوه، ورُفِع عيسى للسماء”.. وفي رواية أخرى كان مع المسيح (19) شخصًا، وقال عيسى: “من يأخذ صورتي فيُقتل وله الجنة “.. وافق أحدهم فسقط شبه عيسى عليه، وأُصعد عيسى إلى السماء”.. قال البيضاوي والنسفي أن سبب القبض على عيسى أن رهطًا من اليهود سبُّوه مع أمه، فدعا عليهم: “اللهم ألعن من سبّني وسبَّ والدتي” فمسخهم اللَّه قردة وخنازير، فاجتمع اليهود على قتله، فقال عيسى لأصحابه: أيكم يرضى بأن يُلقى عليه شبهي فيُقتل ويُصلب ويدخل الجنة، فوافق أحد أصحابه وأُلقي عليه شبه عيسى وصُلِب.
2- وقع الشبه على سرجس: كان عيسى مع الـ12 حواري، منهم “سرجس” وقد أخفى النصارى اسمه، وعندما قال اللَّه لعيسى “إني رافعك إليَّ” قال عيسى: “يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يُشبَّه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني” فقال سرجس: أنا يا روح اللَّه. فقال: فأجلس في مجلسي فجلس فيه، ورُفِع عيسى وصُلِب سرجس. وجاء في كتاب “التفسير المنير لعالم التنزيل” أن اللَّه كسى المسيح بالريش وألبسه النور، فطار المسيح ليسكن مع الملائكة، بعد أن أُلقي بمدرعته وعمامته على سرجس وسلمه عكازه، فأخذوه اليهود وصلبوه.
3- وقع الشبه على يودس: عندما أحاط اليهود بعيسى هرب إلى البيت فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء، وقال ملك اليهود ليهوذا أدخل إلى عيسى في البيت واقتله، فدخل ليقتله فلم يجده، وعندما خرج ألقى عليه شبه وجه عيسى، فأخذوه وصلبوه، وهم يقولون: “الوجه وجه عيسى والبدن بدن يهوذا”.. وفي رواية أخرى أن اليهود قبضوا على المسيح واقتادوه إلى موضع الصليب، فوقع عليهم نعاس فناموا جميعًا، فرفع اللَّه المسيح، وعندما استيقظوا لم يجدوا المسيح، فأخذوا “يهوذا” وكان أشبه الناس بالمسيح فصلبوه، وعندما خافوا من المسائلة أخرجوا جثة يهوذا من القبر وأخفوها في مكان آخر.
4- وقع الشبه على رأس جالوت: غاب عيسى زمانًا عن خالته ثم ذهب لزيارتها، فجاء رأس جالوت اليهودي بجنده وكسروا باب البيت، ودخل رأس جالوت ليقبض على عيسى، فطمس اللَّه عينيه عن عيسى، وألقى شبه عيسى عليه، فأخذه اليهود وصلبوه.
5- وقع الشبه على طيطايوس: قال البيضاوي أن طيطايوس اليهودي دخل بيتًا كان المسيح فيه، فلم يجده، وألقي الشبه على طيطايوس، فلما خرج إليهم ظنوه عيسى وصلبوه.
6- الشبه وقع على الشيطان: قال “شهاب الدين أحمد بن أدريس القرافي” يحتمل أن اللَّه صوَّر لهم شيطانًا أو غيره بصورته وصلبوه ورُفِع المسيح.
7- صُلِب الناسوت ورُفِع اللاهوت: قال “الإمام البيضاوي”: “ولما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود أنه كان كاذبًا فقتلناه حقًا، وقال قوم صُلِب الناسوت وصعد اللاهوت. وقال “الزمخشري”: “شُبّه لهم أي خُيّل لهم أو أُوهموا أنهم قتلوه وصلبوه، فهو ميت لا حي، بل هو حي لأن اللَّه رفعه إليه”. وقال “وهب”: “أنهم قبضوا على المسيح وبصقوا عليه وألقوا عليه الشوك، حتى أتوا به إلى الخشبة ليصلبوه، فرفعه اللَّه إليه، وصلبوا ما شُبّه لهم”.
وهكذا اتسعت دائرة الاحتمالات والفتاوي التي لا سند لها حتى تعدت العشرين رأيًا (حلمي القمص، أسئلة حول الصليب س47 ص313 – 324).
ما هو حكم العقل والمنطق في روايات إلقاء الشبه المتعددة المتضاربة؟
أولًا: تحليل الإمام فخر الدين الرازي:
حلَّل الرازي نظرية إلقاء شبه المسيح على آخر في ضوء العقل والمنطق، وإنتهى إلى أنه لو أخذنا بنظرية إلقاء شبه واحد على آخر، فأننا سنقف أمام الإشكالات الآتية:
الإشكال الأول: هذه النظرية تفتح باب السفسطة، فإن رأيت ولدي ثم رأيته ثانية، فمن أدراني أنه ولدي؟ فربما سقط شبه ولدي على آخر، فرأيت الآخر وظننته ولدي وهو ليس بولدي، فالصحابة الذي رأوا محمدًا (صلعم) ربما لم يكن هو، بل هو آخر سقط عليه شبه محمد، وبالتالي تسقط الشرائع، وتفتح بابًا أوله سفسطة وآخره إبطال النبؤات كلية.
الإشكال الثاني: كان جبريل مع عيسى، وطرف واحد من أجنحة جبريل كفيل بأن يحمي عيسى من جميع البشر.. وإن كان عيسى قادرًا على إحياء الموتى.. ألم يقدر على إماتة هؤلاء اليهود؟!!
الإشكال الثالث: إن اللَّه قادر أن يخلص المسيح من أعدائه، فما الفائدة من إلقاء شبهه على غيره إلاَّ إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة؟!.
الإشكال الرابع: الذي صُلِب له شكل عيسى وهكذا اعتقد المؤمنون اعتقادًا خاطئًا بأنه عيسى، فهل يليق باللَّه أن يُلقي بهؤلاء المؤمنين في الجهل والتلبُّس؟!!.
الإشكال الخامس: جميع النصارى من مشارق الأرض ومغاربها يؤمنون أن المسيح قد صُلِب، فالطعن في هذا هو طعن في التواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبؤة محمد ونبؤة عيسى، بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء.. وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس: ثبت بالتواتر أن المصلوب بقى حيًّا ساعات، فلو لم يكن هو عيسى لأظهر الجزع وصرخ قائلًا: “أنا لست بعيسى”، ولعّلِم الناس الحاضرين ولكن هذا لم يحدث (راجع التفسير الكبير 7: 70 – 71).
ثانيًا: نظرية إلقاء الشبه لا تثبت أمام الأسئلة العديدة، ومنها:
1- إذا كان المسيح قادرًا على إقامة الموتى بشهادة القرآن، ألم يكن من الأيسر جدًا أن يميت هؤلاء الأشرار؟!.. ألم يكن قادرًا أن يُهبِط نارًا من السماء تأكلهم كما فعل إيليا من قبل؟ أو يضربهم بالعمى كما فعل أليشع من قبل؟!.
2- لماذا لم يرفع اللَّه السيد المسيح عيانًا بيانًا جهارًا ليدرك الجميع الحقيقة، ولا يُلقي بالناس في الجهل والضلال والتلبُّس لمئات السنين؟! أو بتعبير “أبونا سرجيوس”: “ما الداعي لهذه المعجزة الفطيس؟!!”.. وما فائدة معجزة تتسبب في إضلال العالم كله؟!!.
3- قال القرآن عن المسيح: “وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا” (مريم 21) فكيف يدعو المسيح اللَّه ليمسخ من سبُّوه هو وأمه قردة وخنازير، مع أنه يطلب من أجل صالبيه: “يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ” (لو 23: 34)؟!!.
4- كيف يلجأ السيد المسيح لأسلوب الغش، فيدفع بأحد أصحابه لعقوبة الصلب المرذولة البشعة، وبلا داعٍ، لأنه الرب قد أخبره أنه سيرفعه للسماء؟!!.
5- لو كان المصلوب شخص آخر غير السيد المسيح، فلماذا طلب المغفرة لصالبيه: “يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ” (لو 23: 34)؟!!.. وكيف يعد اللص بأنه سيكون معه اليوم في الفردوس: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ” (لو 23: 43)؟!!.. ولماذا يوصي بأمه للقديس يوحنا: “هُوَذَا أُمُّكَ” (يو 19: 27) ؟!!.. وكيف ينادي اللَّه قائلًا: “يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي” (لو 23: 46).!!.
6- ما ذنب الرسل وجميع المسيحيين الذين خدعهم اللَّه؟!!.. هل يدخلون الجنة وهم ضالون، أم أنهم يُلقَون في النار لجرم لم يصنعوه، إنما أوقعهم اللَّه فيه؟!!.
7- ما هيَ الحكمة الإلهيَّة أن يصمت اللَّه أكثر من ستمائة سنة ثم يفصح عن الحقيقة؟!!
8- لو كان صلب المسيح خدعة، فكيف نجحت المسيحية، حتى أنها قوَّضت أركان أعظم إمبراطورية حينذاك وهيَ الإمبراطورية الرومانية، وانتصرت على أعظم فلسفة وهيَ الفلسفة اليونانية، وعلى أعظم مدرسة وثنية وهيَ مدرسة الإسكندرية؟!!..
9- لو أن المسيحية بُنيت على الباطل، فكيف تابعت المعجزات المؤمنين من جيل إلى جيل بدون انقطاع؟!!.
10- ما دام الصليب عار وإزدراء، فكيف يصمت اللَّه على هذا الاتهام الصارخ الذي لحق بالمسيح، حتى أن المسيحيين لليوم من مشارق الشمس إلى مغاربها يعتقدون أن المسيح صُلب وهو لم يُصلَب؟!!.
القمص عبد المسيح بسيط”: روايات خرافية غير المنطقية
هذه الروايات تشترك في صفات كثيرة نلخصها فيما يلي:
1- لم تأخذ هذه الروايات لا عن القرآن ولا عن السنة الصحيحة ولا عن كتب السيرة النبوية، ولا من أي وثيقة معتمدة من أي دين!!.
2- لم يعتمد مُعظم الكتَّاب والمفسرين الذين نقلوا هذه الروايات الخيالية، على واحدة منها، وذلك بالرغم من ذكرهم للعديد منها، لأنه لا يوجد أي سند أو دليل لأي واحدة منها على الإطلاق سوى القول “روى أن” أو “قيل”.. وهؤلاء الذين نُقلت عنهم هذه الروايات، سواء كانوا من اليهود أو النصارى الذين اعتنقوا الإسلام، كما يقول ابن خلدون في تاريخه كانوا: “بادية جهلاء” !! ويُسمي العلماء ما نُقل عنهم بالإسرائيليات.
3- اعتمدت هذه الروايات بالدرجة الأولى على الفكر الغنوسي.. إلى جانب الفكر النسطوري، الذي انتشر بواسطة الرهبان النسطوريين الذين عاشوا في الصحراء وكان بعضهم يعيش بالقرب من طرق الرحلات التجارية، والذين كانوا يعتقدون أن المسيح مكون من شخصين متصاحبين هما الإله الذي يقوم بالمعجزات، والإنسان الذي كان يتحمل الآلام، وبالتالي فقد صُلب الإنسان لا الإله، أي صُلب الناسوت ولم يُصلب اللاهوت، كما ذكر بعض ناقلي هذه الروايات “وقيل صُلِب الناسوت ولم يُصلَب اللاهوت”.
4- امتلأت هذه الروايات بالخرافة والخيال الساذج والتناقض الشديد، فقد ذكر بعضها أن سبب صلب المسيح هو: “سبَّه اليهود ومسخه لهم قردة وخنازير”!! والكثير منها لم يذكر سبب ذلك!!. كما تتناقض بشدة من جهة الشخص الذي قيل أنه صُلب بدلًا من المسيح، والمكان الذي تم فيه ذلك، والزمان الذي تم فيه الصلب!!.. أغلب الروايات لا تذكر المكان على الإطلاق!! أما الزمان فغير واضح تمامًا!!.
-5- نسبت هذه الروايات للمسيح صفات لا تليق به وتختلف عن صفاته الحقيقية السامية، مثل الإدعاء بأنه “سبَّ اليهود ومسخهم قردة وخنازير”!! وهذه صفات وأعمال لا تليق بالرب يسوع المسيح الذي جاء ” نُورًا إِلَى الْعَالَمِ ” (يو 12: 46).. والغريب أن بعض هذه الروايات الخرافية الساذجة، تزعم أن المسيح خاف وجبن أمام الموت وارتعب لدرجة أنه لم يرتعب أحد مثله أمام الموت!! وأن أحد تلاميذه كان أشجع منه وقَبِل أن يموت نيابة عنه!!..
ما هو التفسير الصحيح لـ”شبه لهم”..؟
جاء في النص القرآني: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا ” (النساء 157، 158). فاليهود أبغضوا المسيح ودبروا أمر قتله، ولكن لم يكن لديهم السلطة لقتله: “قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا” (يو 18: 31)، لقد فَقَدَ مجمع السنهدريم سلطته في إصدار أحكام الإعدام، ولذلك سلَّموا يسوع للوالي الروماني الذي بيده سلطة إصدار الحكم بالإعدام سواء بالسيف إذا كان يحمل الجنسية الرومانية أو بالصلب لمن لا يحمل الجنسية الرومانية، وهنا القرآن يرد على اليهود الذي زعموا أنهم قتلوا المسيح، فقال أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، إنما الذي فعل ذلك السلطة الرومانية، فالنص هنا لا يخص حادثة الصلب، إنما يخص من قاموا بالحدث. ويقول “د. ألدر”: “إن هذه الآية لا تقول أن المسيح لم يمت على الصليب، ولكنها تقرّر أن اليهود لم يقتلوه ولم يصلبوه، وهذا تاريخيًا صحيح، رغم أنهم مسئولون عن ذلك إلاَّ أن الجنود الرومان هم الذين قاموا بهذا العمل حقًا” ( د. فريز صموئيل – قبر المسيح في كشمير ص158).
كما أنه يُفهم من النص أن اليهود تخيَّلوا أن صلب المسيح كان نهاية المطاف وقد تخلصوا منه للأبد، ولكن اللَّه رفعه من الموت إذ أقامه من بين الأموات. ولذلك قال: “بل رفعه اللَّه إليه وكان اللَّه عزيزًا”، وهذا يتفق مع قول الزمخشري في تفسيره حيث قال: “خُيّل لهم.. أي توهَّموا أنهم قتلوه وصلبوه وتخلصوا منه، فهو ليس ميتًا بل حي، لهذا رفعه اللَّه إليه” (مذكرة خاصة لطلبة الكليات اللاهوتية عن الصليب والفداء ص37).
ويقول “الأستاذ موفق سعيد”: “نفي موت المسيح معنويًا: وذلك بعدم التسليم للقائلين بتغلب قوى الشر على قوى الخير، فهو يسفّه اليهود على تبجحهم الفارغ، لا على حقيقة الصلب والقتل والموت، فقتلهم للمسيح ليس بالقتل الذي يتوهَّمون، وصلبهم له ليس بالصلب الذي يظنون، إذ ما لبث أن إنبعث حيًّا وصعد إلى السماء حيث رفعه اللَّه إليه.
لقد ظن اليهود أنهم قضوا على المسيح قضاءً مبرمًا ولاشوا ذكراه إلى الأبد فلا حاجة لأحد أن يذكره لهم، ولكن خاب فألهم، فهم لم يقتلوه نهائيًا ولم يقضوا عليه قضاءً مبرمًا، أي وما قتلوه (يقينًا) إذ أحياه اللَّه.. أجل أن القرآن يكذّب اليهود على تبجحهم الفارغ لا على حقيقة القتل والصلب والموت (خطوات إنهاء الصراع بين المسيحية والإسلام – بيروت 1961م ص94 – 97، 112) ” (د. فريز صموئيل – قبر المسيح في كشمير ص157، 158).