منوعات

كيف حزن الرب وتأسف في قلبه؟

الدكتور القس عزت شاكر

كيف حزن الرب وتأسف في قلبه؟

“فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ: الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ” (تك6: 6-7).

هذه الكلمات تجد هجومًا شديدًا من عدد كبير من النقاد، وأنا هنا أقتبس بعض مما قيل من هجوم على هذه الآيات:

يقول د. مصطفى محمود: “نرى الله يفعل الفعل ثم يندم عليه، وكأنه لا يدري من أمر نفسه شيئًا، ولا يعرف ماذا يخبئه الغيب”.

ويضيف د. مصطفى: “رب عجيب.. ما يلبث أن يندم على ما يفعل.. الرب في حالة خطأ وندم بطول التوراة وعرضها.. كيف يخطئ الرب ويندم؟ هوذا خلط ودشت من الكلام تكتبه أقلام وليس وحيًا ولا تنزيلاً.. والاعتراض بأنها كلمة مجازية هو اعتراض غير سليم، ولا يصلح مجازًا ولا فعلاً أن نقول أن الله يخطئ، كما لا يصلح مجازًا أن نقول أن الله يكذب أو يظلم أو يجهل.. هذه كلامات لا يصح إطلاقها على الله ولو مجازًا”.

فهنا تواجهنا عدة أسئلة وهي:

ما معنى حزن الله وتأسف في قلبه؟

هل يحزن الله؟ أليس الحزن ضعف؟

وهل يجوز إطلاق صفات بشرية على الله؟

وللإجابة على هذه الأسئلة أقول:

أولاً: استخدام التعبيرات البشرية عن الله:

الكتاب المقدس هو رسالة الله للبشرية، ولذلك هو لا يخاطبنا بلغته، ولا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الأمور. لذلك نجد الروح القدس يستخدم اللغة البشرية للتعبير عن المعاني الروحية والأحداث الإلهية حتى يفهمها الإنسان، وإلا لكان الله يكلم الإنسان بلغة لا يفهمها، فكيف يتعامل الله مع الإنسان بغير لغة الإنسان؟ واستخدام الصفات البشرية في وصف الله تُعرف في علم اللاهوت بمنهج “أنثروبومورفيزم” (Anthropomorphism) أي (تشبيه الله بالإنسان) أو تشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعاني الإلهية للإنسان بلغة قريبة إلى فهم الإنسان.

ولهذا السبب نجد نصوصًا كثيرة في الكتاب المقدس، ينسب الله فيها إلى ذاته تشبيهات مألوفة لدى الإنسان مثل: “كرسي الله”، “يد الله”، “أقسم الرب”، “ذراع الرب”، “فم الرب”، “حزن الله”، “ندم الله”. الخ… كما لو كان الله إنسانًا.

إنه من فضل نعمته يتكلم معنا مثلما يتكلم الأب مع ابنه الصغير، أو الأم مع طفلها الرضيع، فعندما تسأله إن كان يريد ماء ليشرب، تقول له “امبو”، وإذا أرادت أن تعرف إن كان جائعًا، ويريد أن يأكل، تقول له “مم”، لكي تتواصل معه.

وعندما نفند التعبيرات التي أطلقها الوحي على شخص الله، سنجد أنها مجرد تعبيرات بشرية لتبسيط الحق الإلهي لنا، فمثلاً عندما نفكر في تعبير “كرسي الله” بالطبع الله لا يجلس على كرسي، ولا يوجد كرسي يسع الله، فهل الله محدود لدرجة أنه يجلس على كرسي؟! وأين هذا الكرسي؟! ألم يقل عن نفسه: “أَمَا أَمْلَأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ يَقُولُ الرَّبُّ؟”. (إر23: 24).

وقال عنه سليمان: “لأَنَّهُ هَلْ يَسْكُنُ اللَّهُ حَقّاً عَلَى الأَرْضِ؟ هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ” (1مل8: 27).

وقال استفانوس: “كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ: 49السَّمَاءُ كُرْسِيٌّ لِي وَالأَرْضُ مَوْطِئٌ لِقَدَمَيَّ” (أع7: 48-49).

ولكن الوحي عندما أراد أن يعبر عن سيادة وسلطان الله استخدم هذا التعبير.

وتشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعاني الإلهية للإنسان ليس قاصرًا على الكتاب المقدس فقط بل نجده في القرآن أيضًا فينسب إلى الله قوله: “يا حسرة على العابد ما يأتيهم رسول إلا كانوا يستهزءون” (يس36: 30). “والحسرة” أصعب من الحزن والندم.

ومكتوب عن الله أيضًا في القرآن: “ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين” (آل عمران3: 54)، و “المكر” صفة بشرية بغيضة.

وينسب إلى الله قوله أيضًا: “إن كيدي متين” (الأعراف7: 183)، و “الكيد” أيضًا صفة بشرية سيئة.

قال الإمام فخرالدين الرازي: “جميع الأعاض النفسانية، أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء، لها أوائل ولها غايات، مثالة الغضب، فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرب إلى المغضوب (عليه) فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أدلة الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه هو إرادة الإضرار. وكذلك الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس”.

وقال الشيخ محيي الدين بن العربي في الباب الثالث من الفتوحات: “جميع ما وصف الحق تعالى به نفسه من خلق وإحياء وإماته ومنع وعطاء ومكر واستهزاء وكيد وفرح وغضب ورضا وضحك وتبشيش وقدم ويد ويدين وأيد وعين وأعين، وغير ذلك كله نعت صحيح لربنا، ولكن على حد ما تقبله ذاته، وما يليق بجلاله”.

ثانيًا: ما معنى حزن الله وتأسف في قلبه؟

(1) بكل تأكيد الله منزه عن الحزن والأسى والندم بالمفهوم البشري، لأن كل شيء عريان ومكشوف أمامه، فليس عنده ما نطلق عليه أنه غير متوقع، بل كل شيء معروف ومعلن لديه، ولأنه فوق الزمن، فلا يوجد عنده ماض وحاضر ومستقبل، فكل التاريخ حاضر أمامه، وهو القوي القادر على كل شيء وضابط كل شيء، فعلام يحزن أو يندم بالمعنى البشري؟!!

إن الله “لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ” (يع1: 17).

وقد قال الله عن نفسه: “لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ” (ملا3: 6).

وقال أيضًا: “لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. 10مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ قَائِلاً: رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي” (إش46: 9-10).

وقال عنه الوحي: “ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟” (عد23: 19).

(2) عندما يقول الوحي الإلهي عن الله أنه يحب ويكره ويفرح ويحزن ويتحسر ويندم… إلخ، فهو لا يقصد أن الله له حواس مثل حواسنا، إنما يريد أن يبين ويؤكد على مدى تفاعل الله مع البشر، وأن يبين أن له مواقف إزاء ما يفعله البشر، وليس هذا معناه أن الله قد يتغير في ذاته، إنما الذي يتغير هو الإنسان، وبالتالي يتغير حكم الله عليه، لأن الله عادل، والعدل الإلهي يقتضي أن يجازي البشر على حسب أفعالهم.

فيقول (E. F. Kevin) (أ. ف. كيفن): “من المُسلَّم به أن حزن الله إنما هو في الواقع تعبير بشري يشير إلى غضب الله فعلاً، وهو يبين أن موقف الله بالنسبة للإنسان المخطئ لابد أن يختلف عن موقفه بالنسبة للإنسان المطيع”.

وعلى ذلك فإن كان الكتاب المقدس ينسب إلى الله هنا أنه “حزن وتأسف في قلبه”، فهذا ليبين أن الله غير راضٍ عن الإنسان الذي ضل وغوى، وعوج طريقه.

(3) عندما يقول الوحي الإلهي عن الله: “فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه”. فهي صياغة إنسانية بشرية بإرشاد الروح القدس حتى يدركها الإنسان، ويفهمها بعقله المحدود، ويعبر بها الله للإنسان عن حجم الكارثة. فهي كلمات تعبر من ناحية عن عمق الشر الكامن في الإنسان، ومدى فساده وابتعاده وزيغانه، ورفضه للتوبة والرجوع إلى الله خالقه، بل وأصل ومصدر حياته. ورغبته في السير وراء إبليس وإغراءاته، وشهوات قلبه.

وهي كلمات تعبر من ناحية أخرى عن عمق محبة الله المتألمة النازفة. بعد أن سر الله بخلق الإنسان، وقال عنه أنه “حسن جدًا” (تك1: 31) فإذا بهذا الإنسان موضع سرور الله قد هوى في بئر الخطية والشر، فكأن الله يقول أليس هذا هو الإنسان الذي خلقته على صورتي، وأحطته بمحبتي، ومنحته كل المواهب والإمكانيات التي تجعله يعمل ما يسرني؟ فلماذا أهانني بأفعاله الأثيمة، وجرحني بزيغانه بعيدًا عني، وعناد قلبه ورفضه للتوبة، والاستجابة لعمل روحي في داخله؟”.

إنه باختصار تعبير بشري يبين مدى نفور الله من الشر والخطية من جانب، ومدى محبة وشفقة الله على الإنسان الذي سقط وحل به العقاب الإلهي من جانب آخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى