منوعات

هل الإيمان يُنافي العقل والمنطق؟ هل الإيمان المسيحي “إيمان أعمى”

امن ينتقد الكتاب المقدس بكونه غير منطقي لأنه يتعارض مع تقييمه الشخصي، هو غير منطقي.
هناك انطباع لدى الكثير من الناس بأن المؤمنين المسيحيين يعيشون في “عالمين”: عالم الإيمان وعالم المنطق. عالم الإيمان هو العالم الذي يعيشون فيه يوم الأحد صباحًا، أو العالم الذي يشيرون إليه عندما تسألهم عن الأمور الروحية أو الأخلاقية؛ أما عالم المنطق فهو العالم الذي يعيشون فيه باقي أيام الأسبوع، في تعاملهم مع المسائل العملية اليومية. ففي النهاية، لن نحتاج إلى الإيمان بالكتاب المقدس لتزويد سيارتنا بالوقود أو لموازنة دفتر شيكاتنا.
المفاهيم الخاطئة عن الإيمان
إن مفهوم “الإيمان مقابل المنطق” هو مثال على الانقسام الزائف، فالإيمان لا يُنافي العقل والمنطق. على العكس، الإيمان الكتابي يتماشى مع المنطق. لكن المشكلة تكمن في حقيقة أن كثيرين أساؤوا فهم الإيمان. فالإيمان ليس هو الاعتقاد بأمور غير منطقية، أو تصديق أمر ما لمجرد الاعتقاد به، إنما الإيمان هو الثقة بأمور لا نستشعرها بحواسنا. هذا هو التعريف الكتابي للإيمان كما ورد في (العبرانيين11: 1). كلما وثقنا في ما لا نقدر أن نراه، أو نسمعه، أو نتذوقه، أو نشتمّه، أو نلمسه، فنحن نفعل نوعًا من الإيمان. كل الناس لديهم إيمان، لكنه قد لا يكون بالضرورة إيمانًا مُخلصًا بالله.
على سبيل المثال، يؤمن الناس بقوانين المنطق رغم أن قوانين المنطق ليست مادية ولا ملموسة. إنها أفكار مجردة لا يمكن استشعارها بحواسنا. قد نكتب قانون منطق مثل قانون عدم التناقض: “لا يمكن للشيء أن يتصف بصفة ونقيضها في آن واحد ومن جهة واحدة ويُرمز له بالرمز “أ”، فلا يمكن أن يكون “أ” ولا يكون “أ” في الوقت نفسه وفي العلاقة نفسها”، ولكن هذه الجملة ليست سوى التمثيل المادي للقانون، وليست القانون نفسه. عندما يستخدم الناس قوانين المنطق، فإنهم يسلِّمون بصحة شيء لا يستطيعون فعليًا استشعاره بحواسهم، وهذا نوع من الإيمان.
عندما نثق بأن الكون يسير في المستقبل كما سار في الماضي، نحن نتوقع هذا بإيمان. على سبيل المثال، نفترض جميعًا أن الجاذبية ستعمل يوم الجمعة المقبل تمامًا كما عملت اليوم، لكن في الواقع ليس بيننا من استطاع رؤية المستقبل. لذا نحن جميعًا نؤمن بشيء بعيد عن متناولنا ولم نختبره حسيًا. من المنظور المسيحي، هذا الاعتقاد منطقي جدًا. فقد وعد الله (الذي هو خارج إطار الزمن) بأن يحمل الكون كي يعمل بشكل منتظم (على سبيل المثال، تكوين 8: 22). وبالتالي لدينا سبب وجيه لنؤمن بانتظام عمل الطبيعة. بالنسبة للمسيحي الثابت، يتماشى الإيمان مع المنطق.
إنه لمن المناسب والكتابي أن يكون لدينا سبب وجيه لإيماننا (1بط3: 15). في الواقع، يشجعنا الله على التفكير بمنطق (إش1: 18). وقد تحدث الرسول بولس بمنطق مع الحاضرين في المجمع وفي السوق (أع17: 17). وبحسب الكتاب المقدس، فإن الإيمان المسيحي ليس “إيمانًا أعمى”، بل يستطيع أن يدافع عن نفسه بشكل عقلاني. وهو منطقي ومنسجم مع نفسه، يستطيع أن يُعطي معنى لما نختبره في العالم. وعلاوة على هذا، إن المسيحي مُلزّم أخلاقيًا بأن يُفكر بعقلانية ومنطق. يجدر بنا أن نكون مشابهين لله (أف5: 1)، وأن نشكل فكرنا بحسب وحيه (إش55: 7 و8؛ مز36: 9).
علامة المنطق
هناك من يتحدون منطق المنظور الكتابي. يقول البعض: يبدو المنظور المسيحي غير منطقي ظاهريًا، فالكتاب المقدس يتحدث في النهاية عن أحداث عجيبة، إذ يروي قصة رأس فأس يطفو على وجه المياه، وشمس تسير بالاتجاه المعاكس، وكون خُلق في ستة أيام، وأرض لها زوايا وأساسات، وأشخاص يمشون على وجه المياه، ونور وُجِدَ قبل الشمس، وحية تتكلم، وحمار ينطق، وتنانين، ورجل متقدم في السن يحمل زوجين من كل حيوان إلى قاربه الكبير! يوحي الناقد أنه ما من شخص عاقل يستطيع أن يصدق مثل هذه الأمور في عصرنا الحديث المستنير علميًا، ويدّعي أن الاعتقاد في مثل هذه الأمور غير منطقي.
يُدلي الكتاب المقدس ببعض الإفادات غير العادية. ولكن هل هي حقًا غير منطقية؟ هل تخترق قوانين المنطق؟ رغم أن الأمثلة الكتابية المذكورة أعلاه تفوق اختباراتنا العادية اليومية، إلا أنها ليست متناقضة. إنها لا تنتهك أيًا من قوانين المنطق. تسيء بعض انتقادات الكتاب المقدس من تناول اللغة وتفسيرها: فقد تأخذ الصور المجازية (مثل: “أعمدة الأرض”) كما لو كانت حرفية، في حين أنها ليست هكذا. هذا خطأ الناقد، وليس خطأ النص. فالمقاطع الشعرية في الكتاب المقدس، كالمزامير والصور المجازية، ينبغي أن تُعَامَل على أنها مجازية. نكون غير أمناء أكاديميًا إن فسَّرناها بطريقة مغايرة.
يتضح أن معظم الانتقادات ضد قانونية الكتاب المقدس ليست سوى رأي شخصي عما هو ممكن. يؤكد الناقد بشكل تعسفي أنه لا يمكن للشمس أن تسير إلى الوراء في السماء، ولا أن ينشأ النظام الشمسي في ستة أيام. ولكن ما دليله على هذا؟ قد يجادل بأنه استنادًا للقوانين الطبيعية المعروفة، لا يمكن لمثل هذه الأمور أن تحدث. نتفق معه في هذا. ولكن مَنْ قال إن القوانين الطبيعية هي الحد الأقصى لما هو ممكن؟ إن إله الكتاب المقدس غير مُلزَم بالقوانين الطبيعية. بما أن حديث الكتاب المقدس عن طبيعة الله صحيح، إذًا ما من مشكلة أبدًا في أن يعكس الله اتجاه الكواكب، أو أن يخلق نظامًا شمسيًا في ستة أيام. يمكن لله الكلي للقوة والعلم أن يفعل أي شيء ممكن منطقيًا.
إن دوائر المنطق غير المسيحية موجودة لتدافع عن نفسها. وهي لا تنجح في اجتياز اختبارها الخاص.
يبدو الناقد غير عقلاني عندما يرفض ببساطة تلك التصريحات الكتابية التي لا ترضي حسّه بما هو ممكن؛ هذا الحس الشخصي الذي لا يقبل الجدل. إنه يقوم بمغالطة منطقية معروفة باسم “المصادرة (استجداء السؤال”). أي أنه يقرر مسبقًا بأن أمور كالمعجزات مثلًا هي مستحيلة، وبالتالي يفترض ضمنيًا أن الكتاب المقدس غير صحيح لأنه يحتوي على معجزات، في حين أن هذا الافتراض نفسه هو نقطة البداية التي بدأ بها منطقه. إن منطق الناقد يسير في حلقة مفرغة، فقد قرر مسبقًا أنه لا وجود لله القوي والكلي القدرة، الذي يستطيع تحقيق كل ما سجَّله الكتاب المقدس، وعلى هذا الأساس يجادل ضد إله الكتاب المقدس. هذا المنطق ليس مقنعًا البتة. لذا، عندما يتهم الناقد الكتاب المقدس بكونه غير منطقي لأنه يتعارض مع تقييمه الشخصي لما هو ممكن، يتضح أن الناقد نفسه – وليس الكتاب المقدس – هو غير منطقي.
عندما يجادل الناس بأن هناك شيئًا غريبًا أو غير معقول في الكتاب المقدس، يجب أن نسأل دائمًا: “ما هو المعيار الذي يحدد ما إذا كان غريبًا أو غير معقول؟” إذا كان المعيار هو رأي الناقد الشخصي والتعسفي، فيجب علينا عندئذٍ أن نشير بأدب إلى أن هذا، مهما كان، غير جدير بأن يكون منطقيًا. إن الأحاسيس الشخصية ليست المقياس في تحديد ما هو صحيح أو ممكن. في الواقع، بما أن جميع كنوز الحكمة والعلم مذّخرة في المسيح (كولوسي 2: 3)، نفهم بهذا أن الله نفسه هو مَنْ يستطيع أن يحدد الممكن، وبالتالي فإن كلمته هي معيار المعقول، وليس لنا معيار آخر مستقل (غير تعسفي) به نستطيع الحكم على كلمة الله.
قوانين المنطق
لا يمكن رفض تصريحات الكتاب المقدس الاستثنائية لمجرد كونها غير عادية. إذا كان إله الكتاب المقدس موجودًا فعلًا، ويتمتع حقًا بالصفات التي ينسبها إليه الكتاب المقدس (كلي العلم، وكلي القدرة، خارج الزمن الخ.)، لا يتبقى للناقد أي أساس لإنكار إمكانية المعجزة. واضح أن الله الكلي القدرة يستطيع جعل الحمار يتكلم، كما يستطيع خلق الكون في ستة أيام، وجلب زوجين من كل حيوان لنوح، الخ. ليست هذه مشاكل ومعوقات من منظور الكتاب المقدس. عندما يرفض الناقد المعجزة لمجرد أنها معجزة، فهو ببساطة يستجدي السؤال (مغالطة المصادرة).
لكل إنسان معيار أعلى، سواء أدرك هذا أم لم يدرك. إذا لم يكن الكتاب المقدس، سيكون شيئًا آخر.
على أي حال، يؤكد الناقد أحيانًا أن الكتاب المقدس انتهك فعليًا قانون المنطق، ويدّعي أن هناك مقاطع متناقضة في الكتاب المقدس. هذا تحدٍّ أخطر، لأنه لا يمكن أن يكون كلا المتناقضين صحيحًا – حتى من حيث المبدأ. إذا أيّد الكتاب المقدس بيانين متناقضين، فلا بد لأحدهما أن يكون بالضرورة خاطئًا، وأن يكون الكتاب المقدس معصومًا تمامًا. في الواقع، يتبين أن معظم التناقضات المزعومة غير موجودة. إنها تكشف ببساطة أن الناقد لا يفهم حقًا ما هو التناقض. التناقض هو (“أ” ولا “أ” في الوقت نفسه وفي العلاقة نفسها، حيث “أ” هي أي اقتراح). التناقض هو تأكيد ونفي للاقتراح نفسه. وهذا لا ينطبق على معظم التناقضات الكتابية المزعومة. (للمزيد من المعلومات حول هذا، انظر سلسلة التناقضات في موقع “إجابات في سفر التكوين” الإلكتروني) وإليك مثلًا:
حقيقة أن للمسيح سلسلتي أنساب ليس تناقضًا. في الواقع، إن لكل الناس نسبين (على الأقل) – أحدهما عبر الأب، والآخر عبر الأم. بعض الناس لديهم أكثر من نسبين بسبب أن الأب البيولوجي قد لا يكون هو نفسه الأب الشرعي. إن حقيقة أن يسوع وُلِدَ في بيت لحم رغم أنه من “الناصرة” ليست تناقضًا لأن الرب يسوع ترعرع في الناصرة. وحقيقة أن متى 8: 28 يذكر رجلين مسكونين بشياطين لا تتعارض مع حقيقة أن مرقس 5: 2 ولوقا 8: 27 اختارا أن يذكرا أحدهما فقط. ربما كان أحد الرجلين أكثر عنفًا من الآخر؛ على أي حال، ما من تناقض في هذا.
التناقضات المزعومة تبين صحة الكتاب المقدس
من المدهش أنه عندما يؤكد الناقد أن الكتاب المقدس يحتوي على تناقضات، فإنه يدحض عن غير قصد موقفه الخاص، ويُثبت أن الكتاب المقدس صحيح. والسبب هو التالي: إن حق الكتاب المقدس هو المنطق الوحيد المقنع للإيمان بقانون عدم التناقض. يؤمن الجميع تقريبًا بقانون عدم التناقض. و”نعرف” جميعًا أنه لا يمكن أن يكون كلا التصريحين المتناقضين صحيحًا. ولكن هل فكرت يومًا بالسبب في هذا؟
ينبع قانون عدم التناقض من طبيعة إله الكتاب المقدس. الله لا ينكر نفسه (2 تيموثاوس 2: 13)، وكل العلم مذَّخر فيه (كولوسي 2: 3)، وبالتالي فإن المعرفة الحقيقية لا تناقض نفسها. إن قانون عدم التناقض (وأيضًا كل قوانين المنطق) هو قانون عالمي وثابت، لأن الله نفسه يحمل كل الكون (العبرانيين 1: 3)، ولا يتغير مع الوقت (العبرانيين 13: 8). نعلم هذه الأشياء لأن الله كشفها لنا في كلمته. وهكذا، فإن الكتاب المقدس هو الأساس الموضوعي الوحيد لمعرفة أن قانون عدم التناقض صحيح وثابت في كل الأحوال.
لذا، عندما يطبق غير المؤمن قانون عدم التناقض، فإنه يؤيد ضمنيًا المنظور المسيحي. حتى في احتجاجه ضد الكتاب المقدس، فإنه مُلزّم باستخدام معيار الله في التفكير من أجل القيام بهذا. حقيقة أن الناقد قادر أن يجادل في كل شيء تشير إلى أنه على خطأ. وحده الله هو المعيار الصحيح للتفكير لأن فيه كل الحق. وبالتالي يجب أن نبدأ بالله كما هو معلن عنه في كلمته لكي تكون لنا المعرفة الصحيحة (أمثال 1: 7)، سواء اعترفنا بهذه الحقيقة أم كتمناها (رومية 1: 18). إذًا قد يبدو لنا ظاهريًا للوهلة الأولى أننا لسنا بحاجة إلى الإيمان بالكتاب المقدس لنزود سيارتنا بالبنزين أو لموازنة دفتر شيكاتنا، إنما ضمنيًا يجب أن نعتمد على الكتاب المقدس. بدون الله، المعلن عنه في الكتاب المقدس، لن يكون هناك أساس عقلاني لقوانين المنطق التي نعتمد عليها في عملنا في حياتنا اليومية.
بما أن العقلانية نفسها تنبع من طبيعة إله الكتاب المقدس، بالتالي فإن المنظور المسيحي هو بالضرورة عقلاني. هذا لا يعني أن كل المسيحيين عقلانيون طوال الوقت. نحن لا نتبع دائمًا معيار الله علميًا، رغم أن الله خلَّصنا بنعمته. ومع هذا، فإن المنظور المسيحي كما هو موضح في الكتاب المقدس منطقي تمامًا وبدون خطأ. يجب أن تكون الحال هكذا، لأن الكتاب المقدس في الكلمة الموحى بها لإله معصوم. يتبين أيضًا أن وجهات النظر غير الكتابية غير منطقية بطبيعتها، فهي تنكر ضمنًا أو صراحةً وحي إله الكتاب المقدس المذَّخرة فيه كل كنوز الحكمة والعلم (كولوسي 2: 3).
رغم أن وجهات النظر غير الكتابية قد تحمل “جيوبًا” عقلانية في طياتها، إلا أنه يجدر بها أن تحتكم في النهاية إلى الكتاب المقدس كأساس لقوانين المنطق، هذا الكتاب الذي ينكرون كونه كلمة الله الوحيدة الموحى بها. وبالتالي فإن المنظور المسيحي ليس منطقيًا فقط، بل إنه المنظور الوحيد الذي هو في النهاية منطقي باستمرار. إن المسيحي إيمانًا يؤمن بأمور (مثل قصص الكتاب المقدس) لم يختبرها شخصيًا أو يعاينها بشكل حسي، إنما لديه سبب وجيه جدًا للإيمان بالكتاب المقدس. فإله الكتاب المقدس هو الوحيد القادر أن يجعل المنطق ممكنًا. ولهذا فإن السبب الوجيه لإيماني هو أن إيماني يجعل المنطق ممكنًا.
يجدر بغير المؤمن أن يستخدم المبادئ المسيحية للجدل ضد الكتاب المقدس. حقيقة أنه قادر على الجدل في كل شيء تثبت أنه على خطأ. ليس لغير المسيحي سبب وجيه لمعتقداته. إنه يمتلك نوعًا من الإيمان أيضًا، ولكن إيمانه “أعمى”. إنه بدون دفاع (دفاع عن إيمانه)، أي لا يملك ما يبرر به معتقداته (رومية 1: 20). في مقال بعنوان “My Credo”، جادل كورنيليوس فان تيل كوغنتلي بأن “المسيحية هو الوحيدة التي لا تضحي بالعقل في سبيل الحظ”.
صحيح أن المنظور المسيحي منطقي، لكنه أيضًا الوحيد المنطقي. إن نظم الفكر المنافسة لا يمكن أن تتحدث عن قوانين المنطق وخصائصها، أو عن قدرة فكر الإنسان على التوصل إلى قوانين المنطق واستخدامها، أو عن الالتزام الأخلاقي بالتفكير المنطقي. مثل هذه الحقائق تعتمد تمامًا على وجود الله القدير كما كشفه بموضوعية الكتاب المقدس.
الدكتور. جايسن ليزل
حقائق تحت المجهر
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى