منوعات

هل يؤيد سجل الحفريات النظرية الدارونية؟

نورمان ل. جايسلر

نظرًا لعدم توافر التكنولوجيا الحديثة في عصر تشارلز داروين، لم يتمكن من إدراك المشكلات التي تواجه نظريته على مستوى الخلية. إلا أنه أدرك أن أسجل الحفريات يمثل مشكلة كبيرة لنظريته لأنه لا يُظهر تدرجًا. وهو ما دفعه أن يكتب: “فلماذا لا يزخر كل تكوين جيولوجي وكل طبقة جيولوجية بمثل هذه الحلقات المتوسطة؟ مؤكدًا أن الجيولوجيا لا تكشف عن أي سلسة عضوية متدرجة. ويبدو أن هذا أوضح وأخطر الاعتراضات التي يمكن أن تثار ضد نظريتي.

إلا أن داروين أعتقد أن مزيدًا من الاكتشافات الأحفورية سيكشف عن صحة نظريته. ولكن الزمن أثبت أنه مخطئ. وعلى عكس ما تسمع في وسائل الإعلام العامة، سجل الحفريات اتضح أنه سبب إحراج هائل للدرواينيين. فإن كانت الداروينية صحيحة، لوجودنا حتى الآن آلاف، إن لم يكن ملايين الحفريات الانتقالية. ولكن كما يقول الراحل ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould عالم الحفريات في جامعة هارفاد (وهو تطوري):

يتميز تاريخ معظم الأنواع البيولوجية المتحجرة بخاصيتين تتعارضان بشكل خاص مع فكرة التطور التدريجي لهذه الأنواع:

  • السكون Stasis: معظم الأنواع البيولوجية لا يحدث فيها تغيير يسير في اتجاه معين أثناء وجودها على الأرض. ويظل شكلها كما هو تقريبًا منذ أن تظهر في سجل الحفريات وحتى تختفى، أي أن التغيير التركيبي عادة ما يكون محدودًا ولا يسير في اتجاه محدد.

  • الظهور المفاجئ Sudden appearance: في أي منطقة لا ينشأ النوع البيولوجي تدريجيًا بحدوث تغيير مطرد في أسلافه، ولكنه لا يظهر بغته ويكون “مكتمل التكوين”.

أي أن جولد يعترف أن الأشكال الأحفورية تظهر فجأة، مكتملة التكوين، وتظل كما هي حتى تنقرض دون أي تغير اتجاهي، وهو تمامًا ما يتوقع المرء أن يجده إن كان الخلق صحيحًا. ولكن بدلًا من أن يتبنى جولد نظرية الخلق، رفض التطور التدريجي الدارويني وصاغ نظرية أطلق عليها “التوازن المتقطع” Punctuated Equilibria (PE). وترجح نظرية التوازن المتقطع أن الأنواع البيولوجية تطورت أسرع على مدار فترة زمنية أقصر، وهو ما يفسر الفجوات الأحفورية الكبيرة. ولكن جولد لم يبين أي آلية طبيعية لحدوث هذا الأمر، ولكن بما أنه كان ملحدًا كان عليه أن يفسر سجل الحفريات بأي شكل. وهو ما يمثل نموذجًا كلاسيكيًا على السماح للتحيزات بالتشويش على الملاحظات.

ولكن هذا يخرجنا عن موضوعنا. فنقطتنا الأساسية هنا هي أن سجل الحفريات أقرب للخلق فوق الطبيعي منه للماكرو تطور. فالحقيقة أن المفقود من السجل ليس حلقات، بل سلسلة كاملة!

ليس هناك سلسلة، لأن كل المجموعات الرئيسية من الحيوانات المعروفة تقريبًا تظهر في سجل الحفريات فجأة وكاملة التكوين في طبقات من العصر الكامبري Cambrian Period  (الذي يُقدر الكثير من العلماء أنه وجد منذ حوالي 600 إلى 500 مليون سنة). يكتب جوناثان ولز قائلًا: “الدليل الأحفوري قوي جدًا، والحدث المفاجئ وضخم جدًا، حتى إنه عُرف باسم “الانفجار الكامبري” The Cambrian Explosion ، أو “الانفجار البيولوجي الكبير” Biology’s big bang.

وهذا الدليل بالطبع يتعارض تمامًا مع الداروينية. فكل المجموعات الحيوانية تظهر منفصلة عن بعضها البعض، مكتملة التكوين، وفي وقت الواحد. وهو ما لا يدل على تطور تدريجي بل على خلق لحظي. إذن الشجرة الداروينية التي اعتدنا أن نراها كثيرًا لا تمثل سجل الحفريات الحقيقي تمثيلًا صحيحًا. والحقيقة أنه كما يشير ولز: “لو كانت هناك أي مشابهة نباتية مناسبة، لكانت حوض نباتات لا شجرة”. ولكان ذلك الحوض يحتوي على رقع من الحشائش أو النباتات المختلفة التي تفصلها عن بعضها البعض مساحات شاسعة لا شيء فيها سوى التراب.

والآن لعلك تفكر: “ولكن ماذا عن تدرج الجمجمة الذي اعتدنا دائمًا أن نراه؟ ألا يبدو أن الإنسان تطور من القردة العليا؟”. منذ عدة سنوات نظرت (أنا نورم) داروينيًا رص جماجم بجوار بعضها على منضدة ليبين أن التطور حدث بالفعل. وصرح قائلًا: “السيدات والسادة، إليكم الدليل على التطور”. أمرك غريب، كيف تتجاهل الحفريات؟ الجماجم تبدو متدرجة. يبدو أنها متصلة بسلف واحد. هل هذا دليل جيد على الداروينية؟ لا، إنه ليس أفضل من الدليل على أن الغلاية الكبيرة تطورت من معلقة الشاي.

مشكلة الداروينيين أن سجل الحفريات لا يستطيع أن يُثبت أي ارتباط بسلف واحد. لم لا؟ لأنه كما يقول مايكل دنتون: “99% من التكوين البيولوجي لأي كائن حي يمكن تشريح أنسجته Soft anatomy، وهو ما يستحيل عمله في الحفرية”. أي أنه من الصعب جدًا اكتشاف التكوين البيولوجي للكائن بالنظر إلى بقاياه الأحفورية. ويشير جوناثان ولز إلى أن “الدليل الأحفوري يقبل الكثير من التفسيرات لأن النوع البيولوجي الواحد يمكن أن يُعاد بناؤه بطرق متنوعة، ولأن سجل الحفريات لا يمكنه إثبات سلف مشترك يربط بين كل الكائنات”.

إلا أن هذا لا يردع الداروينيين. فبما أن الداروينية ينبغي أن تكون صحيحة نظرًا لولائهم الفلسفي المسبق، إذن ينبغى أن يجدوا أدلة تؤيدها. فبدلًا من أن يعترفوا بأن الحفريات لا تستطيع أن تُثبت ارتباط الكائنات بسلف مشترك، يأخذون الواحد في المائة الذي تخبرهم به الحفريات ويستخدمون التسعة والتسعين في المائة من هامش الحرية المتبقي لهم لتصوير اكتشافاتهم الأحفورية على أنها تسد كل الثغرات كما يحلو لهم. ومع هذا الهامش الفسيح وغياب الحقائق التي تقيدهم، توفرت لهم الحرية في ابتداع “حلقات مفقودة” بأكملها من بقايا أحفورية في منتهى التفاهة. ولذلك، الكثير مما يسمى “حلقات مفقودة” الكشف فيما بعد أنه مزيف أو خاطئ. وقد كتب هنرى جي Henry Gee أحد الكُتاب العميين الرئيسيين في جريدة نيتشر Nature: “إن أخذ تسلسل معين من الحفريات والزعم بأنه يمثل سلالة واحدة ليس فرضية علمية قابلة للاختبار، ولكنه تأكيد تتساوى صلاحيته مع قصص قبل النوم، مسل، وقد يقدم معلومات مفيدة، ولكنه ليس علميًا.

إن سجل الحفريات لا يكفى لإثبات العلاقة بسلف مشترك، وفي ضوء ما نعرفه حاليًا عن طبيعة الأنظمة البيولوجية المعقدة تعقيدًا لا يقبل الاختزال، يتضح أن سجل الحفريات لا يمت بصلة للقضية. وتشابه البنية أو التشريح بين الأشكال (يطلق عليه أحيانًا التماثل Homology) لا يخبرنا أيضًا بأي شيء عن وجود سلف مشترك. فمايكل بيهي يكتب قائلًا: التشريح ببساطة لا يمت بصلة لمسألة ما إذا كان حدوث التطور على المستوى الجزيئي ممكنًا أم لا. وهو ما ينطبق على سجل الحفريات أيضًا. فلم يُعد مهمًا ما إذا كان هناك فجوات كبيرة في سجل الحفريات أم أن السجل متصل مثل سجل رؤساء الولايات المتحدة. وإن كانت هناك فجوات، لا يهم ما إذا كان يمكن تفسيرها تفسيرًا معقولًا. فسجل الحفريات ليس عنده ما يخبرنا به عما إذا كانت التفاعلات بين الريتينال- سي تي إس- 11 11- cts-retinal والرودوبسين Rhodopsin والترانسدوسين Transducin  والفوسفودايسترس Phosphodiesterase  (أنظمة معقدة تعقيدًا لا يقبل الاختزال) قد تكونت خطوة خطوة أم لا.

إذن وفقًا لما يقوله بيهي، البيولوجيا تتفوق بامتياز على التشريح في تحديد معقولية الماكرو تطور. فكما أن محتويات الكتاب تقدم معلومات تتجاوز كثيرًا عن المعلومات التي يوفرها لنا تكوينه العظمى. ومع ذلك طالما حاج الداروينييون بأن تشابه التكوين القردة العليا مثلًا والإنسان دليل على السلف المشترك (أو الانحدار من أصل واحد). فهل يخطر على بالهم أبدًا أن تشابه البنية قد يدلل على مصمم مشترك لا سلف مشترك؟ فمها كان، في عالم محكوم بقوانين فيزيائية وكيميائية معينة، ربما أن عدد البني التشريحية التي ستسفر عن حيوانات مصممة لتمشي على ساقين سيكون محدودًا جدًا، وبما أننا جميعًا يجب أن نعيش في نفس الغلاف الحيوي، ينبغي أن نتوقع تشابه بعض الكائنات في التصميم.

علاوة على ذلك، رغم أن بنية القردة العليا قد تتشابه مع بنية البشر، الحقيقة المهملة غالبًا هي أنه ليس هناك أي وجه شبه بين القردة العليا والبشر من ناحية والثعابين، والفطريات، والأشجار من ناحية أخرى. ولكن وفقًا للداروينية كل الكائنات الحية تطورت من سلف واحد. وإن قبلت الداروينية، يجب عليك أن تتمكن من تفسير الاختلاف الشاسع بين الكائنات الحية. يجب عليك أن تفسر مثلًا كيف أن النخلة، والطاووس، والأخطبوط، والجرادة، والخفاش، وفرس النهر، والقنفد، وفرس البحر، وخناق الذباب، والإنسان، وفطر العفن، انحدرت جميعًا من أول حياة معقدة تعقيدًا لا يقبل الاختزال، دون تدخل ذكي. وعليك أيضًا أن تفسر كيف أتت أول حياة وكيف أتى الكون إلى الوجود. فبلا تفسيرات مقبولة منطقيًا، وهو ما يفشل الداروينيون في تقديمه، فإن الاعتقاد في الداروينية يتطلب إيمانًا مفرطًا. ولذلك لسنا نملك الإيمان الكافي للتحول إلى الداروينية.

لا أملك الإيمان الكافي للإلحاد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى