الدكتور رضا لمعي الجمل
في وقت يحدث فيه تطور هائل في الاكتشافات الطبية ووسائل العلاج الطبية، تطفو على السطح أسئلة بخصوص التطور الطبي وعلاقته بالمبادئ والأخلاق المسيحية. وإحدى القضايا التي تحتاج إلى دراسة هي قضية التبرع ببعض أعضاء الجسم سواء من أحياء أو من موتی؛ التبرع وزرع الأعضاء في عملية نزع أعضاء سليمة من أشخاص أحياء أو موتي مازالت الدورة الدموية تجري في عروقهم (أي في وقت الوفاة) ونقلها لشخص آخر يحتاج إليها. في الوقت الحالي، هذه العملية تشمل القلب، والرئتين، والكبد، والكلى، والبنكرياس، والأمعاء، والعظام، الجلد، والقرنية. وأكثر عمليات زرع الأعضاء انتشارًا في عمليات زرع الكلى، يليها الكبد ثم القلب ثم القرنية.
وأكثر المشاكل الأخلاقية التي تواجه هذا الأمر هو التعريف الدقيق للموت. أغلب الأطباء اتفقوا على أن الموت هو توقف المخ عن العمل، وبالتالي لم يَعُدْ هذا الأمر يمثل مشكلة. لكن هل يحق لنا كمؤمنين أن نتبرع بأعضائنا أو نقبل زرع أعضاء فينا؟ أجمعت كل الطوائف الدينية المسيحية ومعظم الديانات الأخرى أن نقل الأعضاء عمل مشروع. لا يوجد في كلمة الله ما يمنع هذا الأمر، سواء بالتبرع أو قبول الزرع؛ فلأن آخر أسفار الكتاب المقدس کُتب منذ ألفين عام، لذلك بالطبع لم يكن هذا الأمر معروفًا ولم تتطرق إليه كلمة الله.
إلا أنه في واقع الأمر الكتاب المقدس يؤيد هذا الأمر فيكتب ويقول: “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو15: 13)، فالتبرع بالأعضاء هو إظهار المحبة الحقيقية.
لكن المشكلة الوحيدة التي قد يبرزها البعض حول زرع الأعضاء هي ما قاله الرسول بولس: “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم؟ لأنكم قد اشتريتم بثمن . فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (1 كو 6: 19-20). لكن عندما نتحدث عن هذا الجزء في مناقشة زرع الأعضاء، فإننا ننزعه من قرينته الكتابية. هنا كان يناقش مشكلة الزنا الجسدي لا موضوع التبرع بجزء من الجسد الشخص محتاج.
لعل البعض يتساءل ويقول: هل يحق للإنسان أن يتدخل ويطيل عمر إنسان آخر؟ إن أحد الأهداف الرئيسة للتطور الطبي هو إطالة عمر الإنسان وتحسين نوعية الحياة التي نعيشها. هناك عمليات لزرع الأعضاء قد تطيل من عمر الإنسان مثل زراعة القلب والرئتين والكلى والكبد، وهناك عمليات أخرى قد لا تطيل من عمر الإنسان لكنها تحسِّن من نوعية الحياة مثل زراعة القرنية.
إذا رجعنا إلى كلمة الله، قد نجد بعض الأجزاء الكتابية التي تؤيد هذا الأمر؛ فعندما أقام الرب يسوع لعازر من الأموات، كان يقدم له حياة أطول، وقدم له ولأسرته فرصة جديدة. لقد سجلت الأناجيل أن الرب يسوع في ثلاث وعشرين مرة شفي مرضى وأقام موتى. لقد قدم لهم فرصة لحياة أطول من خلال إقامتهم من الأموات ومن خلال شفاء أمراضهم المستعصية، وقدم لهم أيضا فرصة لحياة أفضل من خلال فتح أعين العميان. ومن هنا نقول إن الكتاب المقدس لم يمنع إطالة الحياة أو تحسين نوعية الحياة.
التبرع من الموتى: إن هناك الآلاف من البشر يحتاجون إلى زرع أعضاء يعانون بل ويموتون لأن هناك نقصًا في الأعضاء البشرية، بينما يتم دفن أو حرق آلاف الأعضاء السليمة كل يوم، وهذا الأمر يمثل لنا تحديًا.
إن التبرع بأعضائنا قد يهب حياة للشخص بعدما نذهب نحن لنكون مع المسيح. إن كان الشخص الذي يحتاج إلى أعضائنا مؤمنًا فنحن نهيئ له فرصة لأن يستمر خادمًا لله هنا على الأرض، أما إذا لم يكن مؤمنًا فنحن نقدم له فرصة أخرى لكي يتوب ويرجع إلى الله.
بعض الناس لديهم تحفظ على التبرع بالأعضاء، ويظنون أن التبرع بالأعضاء يؤثر في القيامة في اليوم الأخير. بالطبع الله لا يحتاج أي ذرة من أجسادنا ليقيمنا في اليوم الأخير، فالقيامة ينتج عنها جسد روحي جديد.
أعلن البابا يوحنا بولس الثاني في أغسطس 2000 في مؤتمر دولي حول زرع الأعضاء: “إن زرع الأعضاء هو خطوة رائعة للعلم في خدمة الإنسان، وهناك الكثير من الناس يعيشون الآن نتيجة زرع أعضاء لهم. نحن نريد أن نحرك قلوب الناس لممارسة هذا الأمر الذي يعبِّر عن المحبة الأخوية، المحبة التي تظهر في اتخاذ قرار أن تتبرع بأعضائك.”
إن هبة الحياة التي وهبها لنا الله تقودنا إلى أن نقدِّر هذه الهبة من خلال قرارنا بأن نتبرع بأعضائنا عند الموت (أو أحيانًا في حياتنا إن كان هذا لا يؤثر علينا)، الأمر الذي يساعد على استمرار حياة شخص آخر. إن التبرع بالأعضاء هو عمل من أعمال المحبة الأصيلة.
لعل أعظم مثل أمامنا هو الرب يسوع الذي بذل نفسه ليهبنا حياة. “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16).
لكن في عملية زرع الأعضاء، قد نجد بعض التصرفات غير الأخلاقية المرتبطة بهذا الأمر، فهناك عصابات تخصصت في سرقة الأعضاء البشرية من أشخاص أحياء ليستخدموها في زرع الأعضاء، كما انتشرت في بعض البلاد عملية التجارة بالأعضاء. وهنا نجد استغلالًا لحاجة الناس وانتزاع أعضاء منهم بغرض المتاجرة. هذه الأمور تتنافى تمامًا مع القيم الإنسانية والقيم المسيحية.
لكن هناك أمرًا آخر في زرع الأعضاء، فهناك مَن يستخدمون بعض أعضاء الأجنة لزرعها في المرضى بغرض علاجهم. تم هذا الأمر أولًا في زرع بعض خلايا المخ من جنين كان قد أُجهض وتم زرعها في شخص يعاني من مرض الشلل الرعاش بغرض علاج الخلل الذي يصيب وظائف المخ.
هناك بعض السيدات اللائي ينجبن بغرض استخدام بعض أعضاء الجنين لنقلها إما لأقاربهم أو بغرض التجارة. ينبغي أن ندرك أن الجنين كائن حي ولا ينبغي أن يتدخل أي مَن كان في إنهاء حياته. هو ليس كائنًا للبيع كقطع غيار أو للاستغلال، كما أنه ليس من اللائق أن تُستخدم أجنة السيدات اللائي يطلبن الإجهاض، إما بغرض تحديد النسل أو بغرض التخلص من حمل غير شرعي، في عملية زرع الأعضاء، كما أنه من المجرَّم أن تُجبر سيدة على الحمل بغرض الاتجار بجنينها في زرع الأعضاء. إلا أن هناك بارقة أمل في علاج بعض الأمراض التي تحتاج إلى زرع أعضاء مثل التليف الكبدي، وذلك باستخدام الخلايا الجذعية.
ومن هنا، فالأخلاق المسيحية تشجع التبرع بالأعضاء من موتی أو أحياء كنوع من التعبير عن محبتنا للقريب بدون تعريض الشخص المتبرع لأي خطر يهدد حياته، كما أن الأخلاق المسيحية لا تتفق مع أي إجراء غير أخلاقي ذُكر من قبل.
المراجع