جريدة الطريق
إبراهيم عيسى وناقوس الخطر
رئيس التحرير د. ناجي يوسف
كتبتُ في مقالي السابق والمنشور بعدد فبراير 2022 رأيي، من الناحية الصحفية والتقنية، فيما قدمه إبراهيم عيسى في برنامجه التلفزيوني “مختلف عليه” تحت عنوان “مَنْ يعطل الإصلاح في الكنيسة؟” بتاريخ 21 فبراير 2022. وقد انصب ما كتبته على إبراهيم عيسى وأغراضه من عمل مثل هذا البرنامج، والعنوان الذي اختاره لبرنامجه، وضيوفه، والخلاصة التي توصل إليها أو التي أراد إقحامها على المشاهد للوصول لغايته من تقديم مثل هذا البرنامج. ولم أتعرض للحديث لا عن الكنيسة العامة في مصر، على اختلاف طوائفها، ولا عن قادتها أو ما يحدث بها. لذا، فلوضع الصورة كاملة أمام الجميع، وللكتابة بحيادية وبهدف الإصلاح الكنسي، رأيتُ أن أكتب للكنيسة في هذا المقال عن عدة حقائق لابد من الانتباه لها ومعالجتها وإصلاحها في ضوء ما قدمه إبراهيم عيسى في برنامجه، وحتى لا يخرج علينا المئات أو الآلاف من داخل الكنيسة على اختلاف مكاناتهم في كنائسهم وطوائفهم أو من خارجها أيضًا ليتكلموا في مشاكل الكنيسة، ليس على وسائل التواصل الاجتماعي فحسب بل على البرامج الإذاعية والتليفزيونية أيضًا؛ يتكلمون ويناقشون ويفتون دون علم أو تخصص، وربما لأغراض غير شريفة أيضًا.
وهناك عدة نقاط ينبغي للكنيسة وقياداتها أن تنتبه إليها وتدرسها، بالرغم من أنني أثق أن معظم هذه النقاط، إن لم يكن كلها، ليست بالجديدة عليهم، ويعرفها المسئولون عن الكنيسة تمام المعرفة، وقد اختبروا تأثيرها السلبي عليهم وعلى طوائفهم مرات عديدة، لكنه الإنسان وطبيعته الساقطة التي تجعله ينسى أو يتناسى ويكرر ما أخطأ فيه عشرات المرات وكأنه لم يختبر هذا الخطأ أو ذاك من قبل.
أما النقاط التي ينبغي للكنيسة العامة وقادتها الانتباه لها فهي على سبيل المثال لا الحصر:
1- إن دفن الرؤوس في الرمال وتجاهل ردود أفعال العامة وما يحدث لرجل الشارع العادي ومعه، سواء مسيحي أو مسلم، فيما يختص بما يعمله أو يقوله أو حتى يخفيه قادة الكنيسة دواخلهم وداخل كنائسهم وطوائفهم؛ دفن الرؤوس هذا لم يَعُدْ يصلح أو ينفع الكنيسة وقادتها في عصر الميديا والفضائيات وتنوع وسائلها، ودخول المتطفلين والمنتفعين وأصحاب الأچندات الخاصة وامتلاكهم للقنوات التلفزيونية. فما يقال في الظلمة، في مخادع القادة والمسئولين، يُسمع في النور، وينادى به على السطوح. ولذا فعلى قادة الكنيسة أن يدرسوا ويمحصوا ويدققوا فيما يقولون أو يعملون أو حتى يفكرون في دواخلهم به، وإلا سيظهر هذا المخفي والمسكوت عنه، سواء في دواخلهم أو في دوائرهم الضيقة؛ سيظهر مرة ومرات إما في “مختلف عليه” لإبراهيم عيسى أو لدى غيره من مقدمي البرامج والصحافيين في الشهور القادمة.
2- على قادة الكنيسة أن يفهموا ويعوا أن قدسية الكنيسة ومهابتها، ومهابة قادتها وكهنتها وقسوسها، لم تَعُدْ كما كانت منذ ربع القرن الأخير، وأن يبحثوا ويدرسوا العوامل والأسباب التي أدت إلى ذلك وأيضًا يدرسوا في محضر روح الله القدوس الوسائل والطرق والآليات لإصلاح هذا الأمر الذي أفسده الدهر.
ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك كثرة الحركات والتيارات الإلحادية في البلاد، والتصرفات الخاطئة والتي قد تصل لحد الجرائم والتي يرتكبها بعض رجال الكنيسة ضد بعض أعضاء كنائسهم وخاصةً من النساء والأطفال، أو ضد بعضهم البعض في الطائفة أو المذهب أو حتى الكنيسة الواحدة، أو ضد مَنْ يخالفونهم في العقيدة وبالتالي في الطائفة أو المذهب.
والسبب الثاني لضياع هيبة الكنيسة هو دخول تعاليم غريبة صوفية وليبرالية غير كتابية وسكوت معظم قادة الكنيسة عن مقاومتها بكل قوة وفضحها والتصدي لها علنًا وعزل المنادين بها ومعلميها للمساكين من أرباب الكنائس والمترددين عليها، وعدم اتخاذ قرارات مُلزِّمة من المذاهب المختلفة بعدم السماح لمروجيها بدخول كنائسهم والخدمة بها بأي شكل من الأشكال.
والسبب الثالث هو استمرار القادة والمسئولين عن الكنيسة في الوعظ والتعليم والإرشاد وحتى معالجة مشاكلها بنفس طريقة الخمسينيات التي عفا عليها الزمن ولم تَعُدْ تصلح لجيل الإنترنت والفيسبوك وغيرهما.
والسبب الرابع هو عدم تنقية التراث المسيحي من الخزعبلات والغيبيات والممارسات الطقسية التي ثبت عدم صحتها والتي توارثنا معظمها من الفراعنة والشعوب التي استعمرتنا والأمم المحيطة بنا، وعدم تنقية التراث المسيحي من قصص المصاطب والموالد والأجداد والجدات، مما جعل معظم الشباب العصري المتعلم يضحك ويتهكم علنًا على هذه القصص وعلى قائليها، وإن لم يكن ضحكهم على رجال الدين أمامهم فحتمًا وتأكيدًا أنه يحدث من وراء ظهورهم، لا احترامًا لهم بل لاعتبارهم متخلفين عن ركب الحضارة والتقدم في حياتهم الشخصية والدينية، وبالتالي فلا فائدة من مواجهة الشباب لهم بحقائق لن يعوها أو حتى يكونوا على استعداد أن يفكروا فيها.
والسبب الخامس الذي أضاع هيبة رجال الدين في أعين الشباب والعامة هو الصراع الطائفي والمذهبي بين الطوائف والمذاهب المسيحية المختلفة، وخدعة اهتمام القادة والكهنة والقسوس وبقية الرتب الكنسية بالحالة الروحية فقط للمترددين على الكنائس دون الالتفات لحالتهم النفسية والجسدية وغيرها.
كل هذه الأسباب سابقة الذكر وغيرها الكثير أضعفت وقللت من هيبة الكنيسة ورجالها، وأجبرت الشباب على ترك كنائسهم وأدت إلى تفرقهم في طرق كثيرة كطريق الإلحاد أو تغيير الدين أو الارتماء في أحضان الجماعات المتطرفة مسيحية كانت أم إسلامية.
3- على الكنيسة أن تنتبه إلى أن الكثير من تابعيها والمترددين عليها الآن لديهم عقول يفكرون بها، ومنهم شخصيات قيادية محلية أو عالمية ولهم خبراتهم الشخصية الحياتية التي بالحقيقة وبكل تأكيد لا بد أن تكون أفضل عشرات المرات من خبرات بعض القادة الروحيين بالكنيسة الذين ما اختبروا يومًا وبطريقة عملية طبيعية معنى أن تتزوج وتعيش مع امرأة تحت سقف واحد، فحسبما قال الله تبارك وتعالى نفسه: “ليس جيدًا أن يكون آدم وحده فأصنع له معينًا نظيره”؛ تشاركك هذه المرأة، المعيَّنة لك من الله، حياتك وتعيش معك تحت سقف واحد وتساعدك وتشترك معك في اتخاذ القرارات ومواجهة التحديات والاحتياجات، وتعترض على تصرفاتك إن أخطأت، وتعبِّر بوضوح وصراحة عن رأيها فيما تقوله أو تفعله أو حتى تفكر فيه، وتشعر أنت من جانبك بحاجتك إليها كمعين نظيرك، وتخضع لها في قراراتها الصائبة التي لا حلول أو انفراجة لأزمتك دون قبول وإتباع لها. ناهيك عن أن يكون لك أبناء وبنات يخرجون من صلبك بالجسد، وليس فقط بالروح، وتكون مسئولًا عن تربيتهم، ومعرفة احتياجاتهم النفسية والجسدية والروحية، وتكون أيضًا مسئولًا عن حمايتهم وتعليمهم طريق المسيح الضيق الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية السعيدة. فهناك فرق كبير بين أن تكون الأب “الروحي” لشعب كنيستك أو أبرشيتك وبين أن تكون أبًا لعائلة صغيرة أو كبيرة يحمل أفرادها نفس “الدي إن إيه” الجسدي الذي تحمله أنت، ويسكنون معك في نفس البيت، وقد ينامون على سريرك أيضًا.
وعلى قادة الكنيسة ومسئوليها أن يعلموا أن أصحاب العقول والشخصيات السوية السابق ذكرهم لم يعودوا يقتنعون أو يقبلون بمقولات وتعاليم وتصرفات وحلول عفا عليها الزمن وفاتها قطار الدهر، والتي إحداها هي مقولة “ابن الطاعة تحل عليه البركة” التي يكررها المسئولون عن الكنيسة عندما يحاولون إرغام أصحاب العقول المستنيرة على طاعتهم بعمل كل شيء، أو أي شيء، لا يتماشى مع تفكيرهم السليم، فهي الوجه الآخر لعملة “لا تناقش ولا تجادل”. وإن لم ينجح قادة الكنيسة في إجبار الناس على الطاعة العمياء لهم يبدأون في جلد معارضيهم باستخدام ما أسموه بسلطان الحل والربط، ذلك السلطان الذي اخترعته الكنيسة، متذرعة بقول المسيح لتلاميذه عند ظهوره لهم بعد قيامته من الأموات، حيث يقول النص الكتابي: “فقال لهم يسوع أيضًا: سلام لكم! كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. مَنْ غفرتم خطاياه تُغفر له، ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت.” لكن قادة الكنيسة نسوا أو تناسوا أن الوصية أُعطيت للتلاميذ بعد أن نفخ فيهم تبارك اسمه وقال لهم: “اقبلوا الروح القدس”، أي أن أولئك الذين لهم حق غفران أو إمساك الخطايا هم الذي نفخ فيهم المسيح أي المملوئين من الروح القدس؛ أولئك الذين يستطيعون أن يطبقوا بكل أمانة وخوف ورعدة المبدأ الكتابي “رأى الروح القدس ونحن”؛ أولئك هم ليسوا مجرد فقط المعيَّنين أو المدعوين لخدمة المسيح من الناس قسيسين أو قادة. وهذا التكليف بالحل والربط ليس سلطانًا قد أُعطي للبعض كما يظنون بل للكنيسة كلها ممثلةً في التلاميذ كما علَّم بولس الرسول في رسائله، وهو سلطان يتعلق فقط بعدم غفران الخطايا لأولئك المتمسكين بخطاياهم، ولا علاقة له بمعاقبة مَنْ يخرج على قوانين الكنيسة وطقوسها وتقاليدها، أو بمن يذهب لحضور اجتماعات كنيسة أخرى مخالفة لكنيسته في المعتقد والطقوس مثلما صرَّح أكثر من قائد وكاهن كنسي بأنه محروم مَنْ يذهب إلى كنائسهم “لا حل ولا بركة” لأن مسيحهم غير مسيحنا وكتابنا غير كتابهم، ومع ذلك لم يردعه أحد من المسئولين عن طائفته وبالتالي لم يقر هو بخطئه وجرمه في قول مثل هذا الكلام.
لم يَعُدْ سيف سلطان الحل والربط هذا المسلط على رقاب العباد، والذي يستخدمه قادة الكنيسة على اختلاف طوائفها، بشكل أو آخر مع اختلاف تسميته من طائفة لأخرى، فطائفة تطلق عليه “سلطان الحل والربط”، وأخرى تطلق عليه “الفرز” أو “عزل الخبيث من الجماعة”، أو “حرمانه من كسر الخبز معهم”، أو “التأديب الكنسي” كما يحلو للبعض تسميته، بالإجماع، بغض النظر عن تسميته، يُنظر إليه باحترام وبخوف ورعدة وروحانية إلا لدى الغالبية العظمى من الفقراء والمساكين، غير المثقفين أو المتعلمين، الذين لا حول لهم ولا قوة والذين يحركهم ويكبلهم روح الخوف من الحرمان من التناول من الأسرار الكنسية، أو من الدخول والحضور في كنيسة ما، أو الزواج أو العماد في كنيسة بعينها، أو حتى الدفن في مقابر الطائفة أو في مقابر المسيحيين عامةً.